للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي السِّلْمِ وَهُوَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ بِمَعْنَى الصُّلْحِ وَالسَّلَامَةِ، وَبِالتَّحْرِيكِ [بِمَعْنَى] الْخَالِصِ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [٣٩: ٢٩] أَيْ خَالِصًا لَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مَنْ يُشَاكِسُهُ، وَتَسْمِيَةُ دِينِ الْحَقِّ إِسْلَامًا يُنَاسِبُ كُلَّ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ، وَأَظْهَرُهَا آخِرُهَا فِي الذِّكْرِ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْآيَةُ الْآتِيَةُ وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [٤: ١٢٥] وَقَدْ وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ بِالْإِسْلَامِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَوَصَفَ غَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ بِذَلِكَ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمِلَلِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ ; لِأَنَّهُ هُوَ رُوحُهَا الْكُلِّيُّ الَّذِي اتَّفَقَتْ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ بَعْضِ التَّكَالِيفِ وَصُوَرِ الْأَعْمَالِ فِيهَا ; وَبِهِ كَانُوا يُوصُونَ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ (٢: ١٢٨ و١٣١ - ١٣٣) وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَمْ يَقُلْ هُنَا إِلَّا بَعْضَ مَا قَالَهُ هُنَاكَ، وَبِذَلِكَ كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمَ الْحَقِيقِيَّ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ مَنْ كَانَ خَالِصًا مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ بِالرَّحْمَنِ، مُخْلِصًا فِي أَعْمَالِهِ مَعَ الْإِيمَانِ، مِنْ أَيِّ مِلَّةٍ كَانَ، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وُجِدَ وَمَكَانٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [٣: ٨٥] الْآيَةَ وَسَتَأْتِي، ذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - شَرَعَ الدِّينَ لِأَمْرَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) : تَصْفِيَةُ الْأَرْوَاحِ وَتَخْلِيصُ الْعُقُولِ مِنْ شَوَائِبَ الِاعْتِقَادِ بِالسُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَقُدْرَتِهَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَائِنَاتِ ; لِتَسْلَمَ مِنَ الْخُضُوعِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِمَنْ هُوَ مِنْ

أَمْثَالِهَا، أَوْ لِمَا دُونَهَا فِي اسْتِعْدَادِهَا وَكَمَالِهَا.

(وَثَانِيهِمَا) : إِصْلَاحُ الْقُلُوبِ بِحُسْنِ الْقَصْدِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ وَلِلنَّاسِ، فَمَتَى حَصَلَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ انْطَلَقَتِ الْفِطْرَةُ مِنْ قُيُودِهَا الْعَائِقَةِ لَهَا عَنْ بُلُوغِ كَمَالِهَا فِي أَفْرَادِهَا وَجَمْعِيَّاتِهَا، وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ هُمَا رُوحُ الْمُرَادِ مِنْ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا أَعْمَالُ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا شُرِعَتْ لِتَرْبِيَةِ هَذَا الرُّوحِ الْأَمْرِيِّ فِي الرُّوحِ الْخَلْقِيِّ ; وَلِذَلِكَ شَرَطَ فِيهَا النِّيَّةَ وَالْإِخْلَاصَ وَمَتَى تَرَبَّى سَهُلَ عَلَى صَاحِبِهِ الْقِيَامُ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ الَّتِي يَصِلُ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَتَحْقِيقُ أُمْنِيَةِ الْحُكَمَاءِ.

آهٍ مَا أَشَدَّ غَفْلَةَ النَّاسِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ؟ ! أَيُّ سَعَادَةٍ لِلنَّاسِ تَعْلُو عِرْفَانَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ مَا أُوتِيَهُ مَنْ يُوصَفُونَ بِالْوِلَايَةِ وَالْقَدَاسَةِ وَيُدْلُونَ بِالزَّعَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْبِدُ بِهَا النَّاسَ اسْتِعْبَادًا رُوحَانِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْبِدُهُمْ بِهَا اسْتِعْبَادًا سِيَاسِيًّا، وَإِخْلَاصُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ فِي عَمَلِهِ الدِّينِيِّ وَعَمَلِهِ الدُّنْيَوِيِّ لِلنَّاسِ، هَذِهِ السَّعَادَةُ هِيَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَحَقِيقَتُهُ حَجَبَتْهَا عَنْ بَعْضِهِمُ الرُّسُومُ الْعِلْمِيَّةُ وَالتَّقَالِيدُ الْمَذْهَبِيَّةُ، وَعَنْ آخَرِينَ النَّزَعَاتُ النَّظَرِيَّةُ وَالتَّقَالِيدُ الْوَضْعِيَّةُ، فَالْأَوَّلُونَ يَرْمُونَ بِالْكَفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَذَاهِبَهُمْ، وَالْآخَرُونَ يَنْبِذُونَ بِالْغَبَاوَةِ وَالتَّعَصُّبِ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْذِبْ مَشْرَبَهُمْ، فَمَتَى يَكْثُرُ الْمُسْلِمُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>