للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْخَالِصُونَ الْمُخْلِصُونَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَيَكُونُوا حُجَّةَ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَآيَةَ الْوَحْدَةِ الْفَاضِحَةِ لِلْمُخْتَلِفِينَ؟ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا الْيَهُودُ خَاصَّةً، وَقِيلَ النَّصَارَى خَاصَّةً، وَيُدَعِّمُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا عَامَّةٌ لَا تَخُصُّ فَرِيقًا دُونَ آخَرَ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِسَبَبِ خُرُوجِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَصَارُوا مَذَاهِبَ وَشِيَعًا يَقْتَتِلُونَ فِي الدِّينِ، وَالدِّينُ وَاحِدٌ لَا تَفَرُّقَ فِيهِ وَلَا مَثَارَ لِلِاخْتِلَافِ بَلْهَ الِاقْتِتَالُ، وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْبَغْيُ وَتَجَاوُزُ الْحُدُودِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ كَمَا فَصَّلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَفْصِيلًا فِي تَفْسِيرِ:

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [٢: ٢١٣] فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِالتَّارِيخِ وَخَاصَّةً نَشْأَةَ الْمَذَاهِبِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَفُشُوِّ الْبِدَعِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُ كُنْهَ الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَوْلَا بَغْيُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَنَصْرُ مَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ لَمَا تَعَصَّبَ لِكُلِّ مَذْهَبٍ يُشْتَقُّ مِنَ الدِّينِ شِيعَةٌ تَنْصُرُهُ وَتُؤَيِّدُهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَتُقَاوِمُ كُلَّ مَنْ يُقَاوِمُهُ وَتُضِلُّهُمْ مُتَوَكِّئَةً عَلَى عِلْمِ الدِّينِ، وَمُسْتَنِدَةً إِلَى نُصُوصِهِ بِتَفْسِيرِ بَعْضِهَا بِالرَّأْيِ وَالْهَوَى، وَتَأْوِيلِ بَعْضِهَا وَتَحْرِيفِهِ، أَوْ يُوَافِقُ الْمَذْهَبَ الْمُنْتَحَلَ.

وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَلَّا يَنْظِمَ الْآيَةَ فِي سِمْطِ أَخْبَارِ التَّارِيخِ، وَلَا فِي سِلْكِ عِلْمِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، أَوْ عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجَدَلِ، بَلْ يَتْلُوهَا مُتَذَكِّرًا أَنَّهَا مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا هِدَايَةً وَعِبْرَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ ; لِيَتَّقُوا الْخِلَافَ فِي الدِّينِ وَالتَّفَرُّقَ فِيهِ إِلَى شِيَعٍ وَمَذَاهِبَ اتِّبَاعًا لِسُنَنِ مَنْ قَبْلَهُمْ. نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ نَعْتَقِدُ أَنَّ دِينَ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي بَيَّنَّا مَعْنَاهُ آنِفًا، وَأَنَّ أَسَاسَهُ التَّوْحِيدُ وَالتَّنْزِيهُ، وَأَنَّ الرُّؤَسَاءَ الرُّوحِيِّينَ وَغَيْرَ الرُّوحِيِّينَ لَا سِيَّمَا الْمُلُوكُ وَالْأَحْبَارُ الرُّومَانِيِّينَ هُمُ الَّذِينَ بِتَفَرُّقِهِمْ جَعَلُوا ذَلِكَ الدِّينَ الْإِلَهِيَّ الْوَاحِدَ مَذَاهِبَ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَهْلَهُ شِيَعًا يَفْتِكُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَوْلَا بَغْيُهُمْ لَمَا تَمَزَّقَ شَمْلَ آرْيُوسَ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ بَعْدَ فُشُوِّ الشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ، إِذْ حَكَمَ الْمَجْمَعُ الَّذِي أَلَّفَهُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ سَنَةَ ٣٢٥ م بِمُقَاوَمَةِ آرْيُوسَ وَإِحْرَاقِ كُتُبِهِ وَتَحْرِيمِ اقْتِنَائِهَا، وَلَمَّا انْتَشَرَ تَعْلِيمُهُ مِنْ بَعْدِهِ قَضَى تُيُو دُو سْيُوسَ الثَّانِي بِاسْتِئْصَالِ مَذْهَبِهِ وَإِبَادَةِ الْآرْيُوسِيَّةِ بِقَانُونٍ رُومَانِيٍّ صَدَرَ فِي سَنَةِ ٦٢٨م، وَبَقِيَتْ مَذَاهِبُ التَّثْلِيثِ يُكَافِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا، [نَحْنُ] نَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْنَا أَلَّا نَنْسَى أَنْفُسَنَا وَلَا يَغِيبُ عَنَّا مَا أَصَبْنَا بِهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ عَسَى أَنْ يَسْعَى أَهْلُ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالْغَيْرَةِ فِي نَبْذِ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَالْعَوْدِ إِلَى الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا كُنَّا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>