للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالنَّوَاهِي مِنْ نَفْسِهِ فَيُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ بِلَا مُبَالَاةٍ وَيَتَهَاوَنَ فِي الطَّاعَاتِ الْمُحَتَّمَةِ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ عِنْدَمَا تَفْسُقُ عَنْ دِينِهَا وَتَنْتَهِكُ حُرُمَاتِهِ، ظَهَرَ فِي الْيَهُودِ ثُمَّ فِي النَّصَارَى ثُمَّ فِي الْمُسْلِمِينَ.

وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِعِبَارَةِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّ إِذَا عُوقِبَ فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا قَلِيلَةً كَمَا هُوَ اعْتِقَادُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ الْمُرْتَكِبَ لِكَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ إِمَّا أَنْ تُدْرِكَهُ الشَّفَاعَاتُ، وَإِمَّا تُنْجِيهِ الْكَفَّارَاتُ، وَإِمَّا أَنْ يُمْنَحَ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَإِنْ فَاتَهُ كُلُّ ذَلِكَ عُذِّبَ عَلَى قَدْرِ خَطِيئَتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ فَهُمْ خَالِدُونَ فِي النَّارِ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُمْ وَمَهْمَا كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَالْقُرْآنُ لَا يُقِيمُ لِلِانْتِسَابِ إِلَى دِينٍ مَا وَزْنًا، وَإِنَّمَا يَنُوطُ أَمْرَ النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي دَارِ الْقَرَارِ بِالْإِيمَانِ الَّذِي وَصَفَهُ وَذَكَرَ عَلَامَاتِ أَهْلِهِ وَصِفَاتِهِمْ، وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مَعَ التَّقْوَى وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَمَّا الْمَغْفِرَةُ فَهِيَ خَاصَّةٌ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ بِمَنْ لَمْ تُحِطْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ حَتَّى اسْتَغْرَقَتْ شُعُورَهُ وَرَانَتْ عَلَى قَلْبِهِ فَصَارَ هَمُّهُ مَحْصُورًا فِي إِرْضَاءِ شَهْوَتِهِ وَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ; لِهَذَا يَحْكُمُ هَذَا الْكِتَابُ الْحَكِيمُ بِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُ الدِّينَ جِنْسِيَّةً وَيَنُوطُ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ أَوْ الِاتِّكَالِ عَلَى مَنْ أَقَامَهُ مِنَ السَّلَفِ فَهُوَ مُغْتَرٌّ بِالْوَهْمِ مُفْتَرٍ يَقُولُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كَمَا قَالَ هُنَا: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أَيْ بِمَا زَعَمُوا مِنْ تَحْدِيدِ مُدَّةِ الْعُقُوبَةِ لِلْأُمَّةِ فِي

مَجْمُوعِهَا، وَهَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ الَّذِي كَانَ مَنْشَأَ غُرُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَلَا بِالْفِكْرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَلَيْسَ فِي الْوَحْيِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَلَا يُوثَقُ بِهِ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَا عَهْدَ بِهَذَا وَإِنَّمَا عَهْدُ اللهِ هُوَ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢: ٨٠ - ٨٢] .

ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا الِافْتِرَاءِ بِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِجَزَاءِ يَوْمٍ لَا رَيْبَ فِي مَجِيئِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الدِّينِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ بِأَنْ رَأَتْ مَا عَمِلَتْهُ مُحْضَرًا مُوَفًّى لَا نَقْصَ فِيهِ، فَكَانَ مَنْشَأَ الْجَزَاءِ وَمَنَاطَ السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاءِ، دُونَ الِانْتِمَاءِ إِلَى دِينِ كَذَا وَمَذْهَبِ كَذَا أَوْ الِانْتِسَابِ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ، أَلَا إِنَّهُمْ يَرَوْنَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ بِشَيْءٍ مِنْ دَاخِلِ نُفُوسِهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>