للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَالْأَنْعَامُ الَّتِي يَنْحَصِرُ اسْتِعْدَادُهَا فِيمَا بِهِ حِفْظُ وَجُودِهَا الشَّخْصِيِّ وَالنَّوْعِيِّ لَا تَمِيلُ إِلَّا إِلَى الْغِذَاءِ لِحِفْظِ الْأَوَّلِ وَالنَّزَوَانِ لِحِفْظِ الثَّانِي، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَلَهُ اسْتِعْدَادٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ حَدٌّ وَلَا نِهَايَةٌ وَمَيْلُهُ أَوْ حُبُّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلَا نِهَايَةٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا تَقِفُ الْأَمْرَاضُ الرُّوحِيَّةُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ أَوْ جَمْعِيَّاتِهِ عِنْدَ حُدُودٍ مُعَيَّنَةٍ لِفَسَادٍ فِي التَّرْبِيَةِ وَمَرَضٍ فِي مِزَاجِ الِاجْتِمَاعِ، وَهَذَا الِاسْتِعْدَادُ وَمَا يَتْبَعُهُ أَنْصَعُ الدَّلَائِلِ عِنْدَ الْعَالِمِينَ بِنِظَامِ الْأَكْوَانِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ وَأَنَّ لَهُ حَيَاةً أُخْرَى يَنَالُ بِهَا كُلَّ مَا خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لَهُ مِنَ الْعِرْفَانِ، وَأَعْلَاهُ الْكَمَالُ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ.

يُحِبُّ الْإِنْسَانُ جَمَالَ الطَّبِيعَةِ، وَيُطْرِبُهُ خَرِيرُ الْمِيَاهِ وَحَفِيفُ الرِّيَاحِ، وَتَغْرِيدُ الْأَطْيَارِ عَلَى أَفْنَانِ الْأَشْجَارِ، فَيَبْذُلَ الْمَالَ الْكَثِيرَ لِإِنْشَاءِ الْحَدَائِقِ وَالْجَنَّاتِ وَاجْتِلَابِ مَا لَمْ يُوجَدْ فِي بِلَادِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّيْرِ وَالنَّبَاتِ، يَعْشَقُ جَمَالَ الصَّنْعَةِ فَيُنْفِقُ الْقَنَاطِيرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي اقْتِنَاءِ الصُّوَرِ الْبَدِيعَةِ وَالنُّقُوشِ الدَّقِيقَةِ، يَهْوَى

الْوُقُوفَ عَلَى مَجَاهِلِ الْأَرْضِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى أَحْوَالِ الْعَالَمِينَ فَيَرْكَبُ الْأَخْطَارَ وَيَقْتَحِمُ الْبِحَارَ، وَيَسْمَحُ بِالْوَقْتِ وَالدِّينَارِ يَهِيمُ بِالرِّيَاسَةِ فَيَسْتَهِينُ لِأَجْلِهَا بِاللَّذَّاتِ وَيَزْدَرِي الشَّهَوَاتِ وَيُنَافِحُ فِي سَبِيلِهَا الْأَقْرَانَ، وَيُكَافِحُ فِي طَلَبِهَا السُّلْطَانَ، يَفْتَتِنُ بِحُبِّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَقُوَّادِ الْجُيُوشِ فَيَبْذُلُ حَيَاتَهُ لِحِفْظِ حَيَاتِهِمْ وَيَتَحَمَّسُ فِي التَّحَزُّبِ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، يُولَعُ بِكِبَارِ الْعُلَمَاءِ فَيَتَّخِذُهُمْ أَئِمَّةً مُتَّبَعِينَ وَإِنْ حُرِمَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَتَعَصَّبُ لَهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يُؤَيِّدُهُ مِنْ دُونِهِمْ - يَهِيمُ بِالْمَعْقُولَاتِ السَّامِيَةِ، وَالْحِكْمَةِ الْعَالِيَةِ، فَيَحْتَقِرُ دُونَهَا الْمَالَ وَالْحَيَاةَ وَالرِّيَاسَةَ وَالْإِمَارَةَ، وَيَنْزَوِي فِي كَسْرِ بَيْتِهِ يُعْمِلُ الْفِكْرَ، وَيُرَوِّضُ النَّفْسَ، وَيُصْقِلُ الرُّوحَ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَنْ سَارَ سِيرَتَهُ فَهُوَ الْمَغْبُوطُ، وَأَنَّ الْغَافِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ الْمَغْبُونُ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [٢٣: ٥٣]

أَلَا إِنَّ اسْتِعْدَادَ الْإِنْسَانِ أَعْلَى مِنْ كُلِّ ذَلِكَ ; فَهُوَ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ اكْتِشَافِ الْمَجْهُولَاتِ، وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَمُجَالَدَةِ جَلِيدِ الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ. وَمُوَاثَبَةِ أُسُودِ أَفْرِيقِيَّةَ وَأَفَاعِي الْهِنْدِ، وَمُنَاصَبَةِ أَمْوَاجِ الْقَامُوسِ الْأَعْظَمِ، وَمُرَاقَبَةِ نُجُومِ السَّمَاءِ فِي اللَّيَالِي اللَّيْلَاءِ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ عَنِ الْمَاضِي لِيَتَعَرَّفَ مَبْدَأَ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَيَبْحَثُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِيَعْلَمَ الْغَايَةَ وَالْمَصِيرَ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَةِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا مِنْ حَقَائِقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَاسْتِعْدَادَهَا وَغَرَضَهَا مِنْ بَحْثِهَا وَاسْتِقْصَائِهَا، تَرَى هَذَا الْإِنْسَانَ الَّذِي يُحِبُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى ; لِأَنَّهُ خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لِمَعْرِفَةٍ لَا تَتَنَاهَى، قَدْ يَهِيمُ حُبًّا فِي بَعْضِهَا حَتَّى يَشْغَلَهُ عَنْ سَائِرِهَا، وَكُلَّمَا كَانَ مَوْضُوعُ حُبِّهِ أَعْلَى كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَرْقَى وَأَسْمَى، وَمُنْتَهَى الرُّقِيِّ وَالسُّمُوِّ أَنْ يُحِبَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَعْنَى الْجَمَالِ الْمُودَعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْإِبْدَاعُ الْإِلَهِيُّ وَالنِّظَامُ الرَّبَّانِيُّ فَلَا تَحْجُبُهُ الْمَبَانِي عَنِ الْمَعَانِي، وَلَا تَشْغَلُهُ الْأَشْبَاحُ عَنِ الْأَرْوَاحِ، فَيُلَاحِظُ فِي كُلِّ جَمِيلٍ أَحَبَّهُ مَنْشَأَ جَمَالِهِ، وَفِي كُلِّ كَامِلٍ أَجَلَّهُ مَصْدَرَ كَمَالِهِ، وَفِي كُلِّ بَدِيعٍ مَالَ إِلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>