للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْتَقَلَ مِنَ الْبِشَارَةِ بِعِيسَى إِلَى ذِكْرِ خَبَرِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَطَوَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ خَبَرِ وِلَادَتِهِ وَنَشْأَتِهِ وَبَعْثَتِهِ مُؤَيَّدًا بِتِلْكَ الْآيَاتِ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ، فَقَدِ انْطَوَى تَحْتَ قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ جَمِيعُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبِشَارَةُ وَعُلِمَ أَنَّهُ وُلِدَ وَبُعِثَ وَدَعَا وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ كَمَا سَبَقَتِ الْبِشَارَةُ، فَأَحَسَّ وَشَعَرَ مِنْ قَوْمِهِ - وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ - الْكُفْرَ وَالْعِنَادَ وَالْمُقَاوَمَةَ وَالْقَصْدَ بِالْإِيذَاءِ، وَفِي هَذَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالتَّسْلِيَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فِيهِ، وَإِنَّ أَكْبَرَ مَا فِيهِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَإِنْ كَثُرَتْ وَعَظُمَتْ لَيْسَتْ مُلْزِمَةً بِالْإِيمَانِ وَلَا مُفْضِيَةً إِلَيْهِ حَتْمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ بِاسْتِعْدَادِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ وَحُسْنِ بَيَانِ الدَّاعِي ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَمَّا أَحَسَّ مِنْ قَوْمِهِ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ أَيْ تَوَجَّهَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ فِي دَعْوَتِهِ تَارِكِينَ

لِأَجْلِهَا كُلَّ مَا يُشْغِلُ عَنْهَا مُنْخَلِعِينَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مُتَحَيِّزِينَ وَمُنْزَوِينَ إِلَى اللهِ مُنْصَرِفِينَ إِلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى خَاذِلِيهِ وَالْكَافِرِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ أَيْ أَنْصَارُ دِينِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ الِانْخِلَاعَ وَالِانْفِصَالَ مِنَ التَّقَالِيدِ السَّابِقَةِ وَالْأَخْذَ بِالتَّعْلِيمِ الْجَدِيدِ، وَبَذْلَ مُنْتَهَى الِاسْتِطَاعَةِ فِي تَأْيِيدِهِ ; فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذَلِكَ وَالْحَوَارِيُّونَ: أَنْصَارُ الْمَسِيحِ، وَالنَّصْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ، فَالْعَمَلُ بِالدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ نَصْرٌ لَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا تَتَكَلَّمُ فِي عَدَدِهِمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُعَيِّنْهُ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ لَفْظَ " الْحَوَارِيِّ " مَأْخُوذٌ مِنَ " الْحُوَّارَى " وَهُوَ لُبَابُ الدَّقِيقِ وَخَالِصُهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ خِيَارِ الْقَوْمِ وَصَفْوَتِهِمْ، أَوْ مِنَ " الْحَوَرِ " وَهُوَ الْبَيَاضُ، وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ وَمِنْ هُنَا قِيلَ خَاصٌّ بِأَنْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ لَهُ مُنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَعْمَالِهِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ (أَحَسَّ) يُسْتَعْمَلُ فِي إِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ أَحْسَسْتُ مِنْهُ مَكْرًا، وَأَحْسَسْتُ مِنْهُ بِمَكْرٍ، وَمَا أَحْسَسْنَا مِنْهُ خَبَرًا، وَهَلْ تُحِسُّ مِنْ فُلَانٍ بِخَبَرٍ؟ وَالْمَكْرُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحِسِّيَّةِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِهَا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْآيَةِ: " تَحَقَّقَ كُفْرُهُمْ عِنْدَهُ تَحَقُّقَ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ " وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَحَسَّ الشَّيْءَ أَدْرَكَهُ بِإِحْدَى حَوَاسِّهِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى إِدْرَاكِ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَجَازٌ شُبِّهَ فِيهِ الْمَعْقُولُ بِالْمَحْسُوسِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يُعْرَفُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْمَحْسُوسَةِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْجَارَّ فِي إِلَى اللهِ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ أَنْصَارِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ مَادَّةَ نَصَرَ تُعَدَّى بِـ " إِلَى "، ذَلِكَ بِأَنَّ مَجْمُوعَ الْكَلَامِ هُنَا قَدْ أَشْرَبَ الْكَلِمَةَ مَعْنَى اللُّجْأِ وَالِانْضِمَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>