للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)

الْإِيمَانُ: هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الْمُقْتَرِنُ بِإِذْعَانِ النَّفْسِ وَقَبُولِهَا وَاسْتِسْلَامِهَا، وَآيَتُهُ الْعَمَلُ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ عِنْدَ عَدَمِ الصَّارِفِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْيَقِينِ، وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ، كَذَاتِ اللهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَالدَّارِ

الْآخِرَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الرُّوحِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مُمْكِنٍ. وَلِلصَّلَاةِ صُورَةٌ وَرُوحٌ، فَصُورَتُهَا عِبَادَةُ الْأَعْضَاءِ، وَرُوحُهَا عِبَادَةُ الْقَلْبِ - كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي - وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مُطْلَقًا، وَمَا بَعْدَهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَفَسَّرَهُمَا شَيْخُنَا تَفْسِيرًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَدْلُولِ النَّظْمِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ:

النَّاسُ قِسْمَانِ: مَادِّيٌّ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا بِالْحِسِّيَاتِ، وَغَيْرُ مَادِّيٍّ يُؤْمِنُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، أَيْ بِمَا غَابَ عَنِ الْمَشَاعِرِ مَتَى أَرْشَدَ إِلَيْهِ الدَّلِيلُ أَوِ الْوِجْدَانُ السَّلِيمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ - وَهِيَ جُنُودٌ غَائِبَةٌ لَهَا مَزَايَا وَخَوَاصُّ يَعْلَمُهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ. وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِالْقُرْآنِ، وَمَنْ يَتَصَدَّى لِهِدَايَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِهَا ثُمَّ يُقْنِعُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ مِنْ لَدُنْهُ تَعَالَى. لِذَلِكَ وَصَفَ اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ بِمَوْجُودٍ وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ، وَقَدْ كَتَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي صَاحِبِهِ مَا نَصَّهُ:

(وَصَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَاقِفٌ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَقَائِمٌ عَلَى أَوَّلِ النَّهْجِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَسْلَكِ، وَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ إِلَى الْغَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ مَوْجُودَاتٍ يُصَدِّقُ بِهَا الْعَقْلُ - وَإِنْ كَانَتْ لَا يَأْتِي عَلَيْهَا الْحِسُّ - إِذَا أَقَمْتَ لَهُ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُودِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُسْتَعْلِي عَنِ الْمَادَّةِ وَلَوَاحِقِهَا، الْمُتَّصِفِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَخَفَّ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي جَلِيِّ الْمُقَدِّمَاتِ وَخَفِيِّهَا، وَإِذَا جَاءَ الرَّسُولُ بِوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَوْ بِذِكْرِ عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهَا، كَعَالَمِ الْمَلَائِكَةِ - مَثَلًا - لَمْ يَشُقَّ عَلَى نَفْسِهِ تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ بَعْدَ ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ، لِهَذَا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُقَدِّمَةِ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>