للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هُوَ عَيْنُ مَا أَنْكَرَهُ كِتَابُ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَهُ مُنَافِيًا لِلْإِسْلَامِ، بَلْ جَعَلَ مُخَالَفَتَهُمْ فِيهِ هِيَ عَيْنَ الْإِسْلَامِ فَلْيَعْتَبِرِ الْمُعْتَبِرُونَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَسَاسُ الدِّينِ الْمَتِينِ وَأَصْلُهُ الْأَصِيلُ ; وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو بِهَا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ

كَمَا ثَبَتَ فِي كُتُبِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَالْمُقَوْقِسِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا نَصُّ كِتَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هِرَقْلَ عَاهِلِ الرُّومِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.

" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا ".

فَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ أَسَاسُ الدِّينِ وَعَمُودُهُ لَمَا جَعَلَهَا آيَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ أَدْخَلَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فَاتَّخَذَ لَهُ أَنْدَادًا يَدْعُوهُمْ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ زَاعِمًا أَنَّهُمْ وَسَائِطُ يُقَرِّبُونَهُ إِلَى زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَهَذَا عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِالِاجْتِهَادِ الْبَاطِلِ، وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي يُشَبِّهُ بِهِ الْخَبِيرَ الْعَلِيمَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ بِالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا قِيَاسَ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، أَمْ هَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أَرْبَابًا سَمَّاهُمُ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ، أَوِ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَجَعَلَ كَلَامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ، وَشَرْعًا مُتَّبَعًا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ هِدَايَةِ الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [٤٢: ٢٠] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [١٦: ١٦٦] فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ حَدَّ الْحُدُودَ وَبَيَّنَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِنَا غَيْرَ نِسْيَانٍ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَنَهَانَا نَبِيُّهُ أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ وَأَنْ نَزِيدَ فِي الدِّينِ بِرَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَنَا الِاجْتِهَادَ لِاسْتِنْبَاطِ مَا تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُنَا فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ هَدْيُ الْآيَةِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ.

رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ الْمُتَكَرِّرِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا نَصْرَانِيًّا، فَأَنْزَلَ اللهُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ

لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ. كَذَا فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَقُولُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ دِينُ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِإِجْلَالِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>