للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَقُولُ: وَفِي خَبَرِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ مِنَ الْعِبْرَةِ لَنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ، فَإِنَّ فِينَا مَنْ يَقُولُ الْآنَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ أَمْوَالِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بَلِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُطْلَقًا، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُفَسِّرُونَ دَارَ الْحَرْبِ - كَمَا يَشَاءُونَ - حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَ النَّاسِ يُحِلُّونَ لِعُمَّالِ مَرْكَبَاتِ التِّرَامِ بِمِصْرَ أَنْ يَخُونُوا أَصْحَابَهَا بِبَيْعِ تَذْكِرَةِ الرُّكُوبِ فِيهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَيُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنِ اسْتَلْزَمَتْ مُسَاعَدَتُهُمُ الْكَذِبَ، فَهُمْ بِهَذَا يُحِلُّونَ الْخِيَانَةَ وَالسَّرِقَةَ وَالْكَذِبَ وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي دِينٍ، وَيَتَنَاوَلُهُمْ وَعِيدُ الْيَهُودِ فِي الْآيَةِ وَوَعِيدُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [١٦: ١١٦، ١١٧] وَمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا سُوءُ التَّقْلِيدِ لِلْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ أَكْلِ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِهِ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالرِّبَا وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ لَا يُحِلُّونَ الْغِشَّ وَلَا الْخِيَانَةَ وَلَا السَّرِقَةَ وَلَا الْكَذِبَ وَالِاحْتِيَالَ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ يَجُوزُ أَكْلُ مَالِهِ بِرِضَاهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْعُقُودِ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهَا. فَلْيَنْظُرِ الْمُسْلِمُ الصَّادِقُ الْمُسْتَنِيرُ بِالدَّلِيلِ إِلَى سُوءِ مَغَبَّةِ التَّقْلِيدِ وَكَيْفَ أَنَّهُ اسْتَلْزَمَ الِاجْتِهَادَ الْبَاطِلَ إِذْ صَارَ الْجَاهِلُونَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِيسُونَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ عَلَى أَكْلِهِ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مَعَ التَّرَاضِي، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ.

ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ الْحَقِّ فِي الْمُعَامَلَةِ: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الْعَهْدُ: مَا تَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ بِهِ لِغَيْرِكَ، فَإِذَا اتَّفَقَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَقُومَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِشَيْءٍ مُقَابَلَةً وَمُجَازَاةً يُقَالُ: إِنَّهُمَا تَعَاهَدَا، وَيُقَالُ: عَاهَدَ فُلَانٌ فُلَانًا عَهْدًا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعُقُودُ الْمُؤَجَّلَةُ وَالْأَمَانَاتُ، فَمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَقْرَضَكَ مَالًا إِلَى

أَجَلٍ أَوْ بَاعَكَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَجَبَ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءُ حَقِّهِ إِلَيْهِ فِي وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُلْجِئَهُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْإِلْحَاحِ فِي الطَّلَبِ، بِذَلِكَ تَقْتَضِي الْفِطْرَةُ وَتُحَتِّمُهُ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا مِثَالُ الْعَهْدِ مَعَ النَّاسِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلُوا الْعَهْدَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِالْمُعَاهَدِ، فَإِنْ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَجَبَ الْوَفَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيٍّ فَلَا عَهْدَ لَهُ وَلَا حَقَّ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْإِطْلَاقِ عَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - وَهُوَ مَا يَلْتَزِمُ الْمُؤْمِنُ الْوَفَاءَ لَهُ بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَعَهِدَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْيَهُودِ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُوفُونَ بِهَذَا الْعَهْدِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَلَوْ أَوْفَوْا بِهِ لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، كَمَا أَوْصَاهُمُ اللهُ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَلَفْظُ (بَلَى) جَاءَ لِإِثْبَاتِ مَا نَفَوْهُ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَهُوَ يَقُولُ: بَلَى عَلَيْكُمْ سَبِيلٌ وَأَيُّ سَبِيلٍ ; إِذْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ جَزَاءَ أَهْلِ الْوَفَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>