للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالتَّقْوَى فَقَالَ: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهَ أَوِ النَّاسَ وَاتَّقَى الْإِخْلَافَ وَالْغَدْرَ وَالِاعْتِدَاءَ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّهُ فَيُعَامِلُهُ الْمَحْبُوبُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مَحَلَّ عِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ وُرُودَ الْجَوَابِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَفَادَنَا قَاعِدَةً عَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَهِيَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعُهُودِ وَاتِّقَاءَ الْإِخْلَافِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ وَيَجْعَلُهُ أَهْلًا لِمَحَبَّتِهِ لَا كَوْنُهُ مِنْ شَعْبِ كَذَا، وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْلَمُ خَطَأُ الْيَهُودِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَفِيهِ التَّعْرِيضُ بِأَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الرَّأْيِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِكُلِّ دِينٍ قَوِيمٍ.

ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَ أَهْلِ الْغَدْرِ وَالْإِخْلَافِ مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْأَشْعَثَ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: " أَحْلِفُ "

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ مَالِي، فَأَنْزَلَ اللهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ الْآيَةَ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنْ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً لَهُ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بِالسَّبَبَيْنِ مَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تُذْكَرُ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ فَيَظُنُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهَا وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَالْأَيْمَانُ فِيهَا جَمْعُ يَمِينٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْيَدِ الَّتِي تُقَابِلُ الشِّمَالَ ثُمَّ سَمَّى الْحَلِفَ وَالسَّقَمَ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَالِفَ فِي الْعَهْدِ يَضَعُ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ مَنْ يُعَاهِدُهُ عِنْدَ الْحَلِفِ لِتَأْكِيدِ الْعَهْدِ وَتَوْثِيقِهِ، حَتَّى إِنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَضَافَ الْعَهْدَ هَاهُنَا إِلَى اللهِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - عَهِدَ إِلَى النَّاسِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَاهَدُونَ وَيَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا كَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَتَّقُوهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَعَهْدُ اللهِ يَشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ.

وَلَمَّا كَانَ النَّاكِثُ لِلْعَهْدِ لَا يَنْكُثُ إِلَّا لِمَنْفَعَةٍ يَجْعَلُهَا بَدَلًا مِنْهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ وَمُبَادَلَةٌ، وَسَمَّى الْعِوَضَ ثَمَنًا قَلِيلًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَنْكُثُونَ الْعَهْدَ فِي الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا إِذَا أُوتُوا عَلَيْهِ أَجْرًا كَبِيرًا وَثَمَنًا كَثِيرًا لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤْخَذُ بَدَلًا مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>