للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَهْدِ اللهِ فَهُوَ قَلِيلٌ لَا سِيَّمَا إِذَا أُكِّدَ بِالْيَمِينِ ; لِأَنَّ الْعُهُودَ إِذَا خُزِيَتِ اخْتَلَّ أَمْرُ الدِّينِ إِذِ الْوَفَاءُ آيَتُهُ الْبَيِّنَةُ، بَلْ مِحْوَرُهُ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ، وَفَسَدَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا إِذْ تَبْطُلُ ثِقَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَالثِّقَةُ رُوحُ الْمُعَامَلَاتِ وَسِلْكُ النِّظَامِ وَأَسَاسُ الْعُمْرَانِ ; لِأَجْلِ هَذَا كَانَ الْوَعِيدُ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ - وَلَوْ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ - أَشَدَّ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَأَغْلَظَهُ، وَأَيُّ عِقَابٍ أَشَدُّ مِنْ عِقَابِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ فِيهَا، وَلَا يُكَلِّمُهُ اللهُ كَلَامَ إِعْتَابٍ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ عَطْفٍ وَرَحْمَةٍ، وَلَا يُزَكِّيهِ بِالثَّنَاءِ

عَلَى عَمَلٍ لَهُ صَالِحٍ، أَوْ لَا يُطَهِّرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ؟ لَمْ يَكْتَفِ - تَعَالَى - بِحِرْمَانِ بَائِعِي الْعَهْدِ بِالثَّمَنِ مِنَ النَّعِيمِ وَبِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى بَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي دَرَكَةٍ مِنَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ لَا تُرْجَى لَهُمْ فِيهَا رَحْمَةٌ وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ - تَعَالَى - كَلِمَةَ عَفْوٍ وَلَا مَغْفِرَةٍ، فَعَدَمُ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ وَمُنْتَهَى الْغَضَبِ الَّذِي لَا رَجَاءَ مَعَهُ وَلَا أَمَلَ.

إِنَّ الزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرَ وَالرِّبَا وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَتَوَعَّدْ مُرْتَكِبِي هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ بِمِثْلِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ نَاكِثِي الْعُهُودِ وَخَائِنِي الْأَمَانَاتِ ; لِأَنَّ مَفَاسِدَ النَّكْثِ وَالْخِيَانَةِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهَا تِلْكَ الْجَرَائِمُ، فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ التَّدَيُّنَ وَيَتَّسِمُونَ بِسِمَةِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِالْعُهُودِ وَلَا يَحْفَظُونَ الْأَيْمَانَ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ صَغِيرًا مِنْ حَيْثُ يُكَبِّرُونَ أَمْرَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا. الْإِيمَانُ بِاللهِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْخِيَانَةِ وَالنَّكْثِ فِي نَفْسٍ، وَقَدْ عَدَّ - تَعَالَى - أَخَصَّ وَصْفٍ لِزُعَمَاءِ الْكُفْرِ يُبِيحُ قِتَالَهُمْ كَوْنَهُمْ لَا وَفَاءَ لَهُمْ بِالْعُهُودِ إِذْ قَالَ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [٩: ١٢] وَقَالَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ - إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا وَقَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ.

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>