للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ بَيَانٌ لِحَالِ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْفَرِيقِ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى

شَاكِلَتِهِمْ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ. وَيَرْوُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَحَدِ زُعَمَائِهِمُ الْمُلِحِّينَ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيذَائِهِ وَالْإِغْرَاءِ بِهِ، غَيَّرُوا التَّوْرَاةَ وَكَتَبُوا كِتَابًا بَدَّلُوا فِيهِ صِفَةَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخَذَتْ قُرَيْظَةُ مَا كَتَبُوهُ فَخَلَطُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَهُمْ وَجَعَلُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِقِرَاءَتِهِ ; يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ يُنْبِئُ بِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِمْسَاكِهِمْ بِكِتَابِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الدِّينَ جِنْسِيَّةً وَصَارَ الِانْتِصَارُ لَهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِمْ، بَلْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَنْ كِتَابِهِمْ وَيُحَرِّفُونَهُ لِمُقَاوَمَةِ الْغَرِيبِ، وَيُعِدُّونَ ذَلِكَ انْتِصَارًا لَهُ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، فَقَدْ يَعُدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ وَالْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِعَقَائِدِهِ وَأُصُولِهِ وَلَا بِفُرُوعِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنِ الْعَامَّةِ، وَلَا هُوَ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ - وَإِنَّمَا يَعُدُّونَهُ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ عَادَى مَنْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِسَبَبٍ سِيَاسِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، بَلْ يُعِدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ مَنْ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمُخَالَفَتِهِمْ مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَالْمُقَلِّدُونَ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوهُ لَا لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ جَاءَ بِهِ. وَقَدْ يُحَرِّفُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّأْوِيلِ لِتَأْيِيدِ تَقَالِيدِهِمْ وَبِدَعِهِمْ أَوْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ اعْتِذَارًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُطَالَبِينَ بِأَخْذِ دِينِهِمْ مِنْهُ بَلْ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ.

أَمَّا لَيُّ اللِّسَانِ بِالْكِتَابِ فَهُوَ فَتْلُهُ لِلْكَلَامِ وَتَحْرِيفُهُ لَهُ بِصَرْفِهِ عَنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ وَقَدْ وَصَفَ - تَعَالَى - بِهِ الْيَهُودَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ [٤: ٤٦] فَهَذَا مِثَالٌ مِنْ لَيِّ اللِّسَانِ بِالْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكِتَابِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَضَعُوا كَلِمَةَ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكَانَ جُمْلَةِ " لَا أُسْمِعْتَ مَكْرُوهًا " الدِّعَائِيَّةِ الَّتِي تُقَالُ عَادَةً عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاعِ. وَكَلِمَةَ رَاعِنَا مَكَانَ كَلِمَةِ " انْظُرْنَا " الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ لِمَنْ يَطْلُبُونَ مَعُونَتَهُ وَمُسَاعَدَتَهُ وَإِنَّمَا قَالُوا: غَيْرَ مُسْمَعٍ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِمَعْنَى " لَا سَمِعْتَ " وَقَالُوا: رَاعِنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عِبْرَانِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ كَانُوا يَتَسَابُّونَ

بِهَا - كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ - وَمِثْلُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضْغِمُونَ كَلِمَةَ السَّلَامِ فَيُخْفُونَ اللَّامَ قَائِلِينَ " السَّامُ عَلَيْكُمْ " غَيْرَ مُفْصِحِينَ بِالْكَلِمَةِ، وَالسَّامُ: الْمَوْتُ، فَاللَّيُّ وَالتَّحْرِيفُ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْهُمْ أَحْيَانًا بِتَغْيِيرٍ فِي اللَّفْظِ وَأَحْيَانًا بِصَرْفِهِ إِلَى غَيْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>