للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَإِلْزَامِ الْكَاذِبِينَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَالْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوْرَاةِ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهَا وَتِلَاوَتِهَا عَلَى الْمَلَأِ، وَامْتِنَاعِهِمْ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْهَرَ أَنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ التَّوْرَاةِ. وَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ حَتَّى يَرِدَ النَّصُّ بِالتَّحْرِيمِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بِتَحْوِيلِهِمُ الْحَقَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ وَجْهِهِ، وَوَضْعِ حُكْمِ اللهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.

قُلْ صَدَقَ اللهُ فِيمَا أَنْبَأَنِي بِهِ مِنْ عَدَمِ تَحْرِيمِ شَيْءٍ عَلَى إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّنِي مُبَلِّغٌ عَنْهُ، إِذْ مَا كَانَ لِي لَوْلَا وَحْيُهُ أَنْ أَعْرِفَ صِدْقَكُمْ مِنْ كَذِبِكُمْ فِيمَا تُحَدِّثُونَ بِهِ عَنْ أَنْبِيَائِكُمْ، وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِ حَنِيفًا لَا غُلُوَّ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ، وَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ الْقَوِيمَةُ وَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ

الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَحْدَهُ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْخَيْرَ مِنْ غَيْرِهِ - تَعَالَى -، أَوْ يَخَافُونَ الضُّرَّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِ الَّتِي مَضَتْ بِهَا سُنَّتُهُ.

أَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ جَوَابُ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ الَّذِي نَسْتَقْبِلُهُ فِي صَلَاتِنَا هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ مَعْبَدًا لِلنَّاسِ، بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ خَاصَّةً، ثُمَّ بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَهُ بِعِدَّةِ قُرُونٍ، بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَتَوَجَّهُ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهُوَ كَافٍ فِي إِبْطَالِ شُبْهَةِ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ هَلْ هِيَ أَوَّلِيَّةُ الشَّرَفِ أَمْ أَوَّلِيَّةُ الزَّمَانِ أَقُولُ: وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهَا أَوَّلِيَّةُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْأَنْبِيَاءُ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعٌ بَنَاهُ الْأَنْبِيَاءُ أَقْدَمَ مِنْهُ فِيمَا يُعْرَفُ مِنْ تَارِيخِهِمْ وَمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلِيَّةَ فِي الشَّرَفِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ زَمَانِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِ الْبُيُوتِ مُطْلَقًا. فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَتْهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بُنِيَ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا شَيْءَ فِي الْعَقْلِ يُحِيلُهُ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى ثُبُوتِهِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْإِطْلَاقُ قَدْ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ٨٠٠ سَنَةٍ - كَذَا قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدَّرْسِ - وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّهُ تَمَّ بِنَاؤُهُ سَنَةَ ١٠٠٥ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدَيْنِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ الْوَضْعِ لَا الْبِنَاءِ. قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>