للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَبِهَا كَانَ يُؤْثِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي خَصَاصَةٍ وَحَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، بَعْدَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَتَسَافُكِ الدِّمَاءِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي جُمْلَتِهِ لِلْجَمَاهِيرِ، وَفِي تَفَاصِيلِهِ الْغَرِيبَةِ لِلْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَخْبَارِهِمُ الْمَرْوِيَّةِ وَالْمُدَوَّنَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحُرُوبَ تَطَاوَلَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى أَطْفَأَهَا الْإِسْلَامُ، وَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَذَا بَعْضُ مَا أَفَادَهُمُ الْإِسْلَامُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَقَدْ أَنْقَذَهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ مِمَّا هُوَ شَرٌّ وَأَدْهَى وَأَمَرُّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا أَيْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ بِوَثَنِيَّتِكُمْ وَشِرْكِكُمْ بِاللهِ - تَعَالَى - وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي أَطْفَأَتْ نُورَ الْفِطْرَةِ، وَهَبَطَتْ بِالْأَرْوَاحِ إِلَى دَرْكٍ سَافِلٍ حَتَّى كَانَتْ كَأَنَّهَا عَلَى طَرَفِ حُفْرَةٍ يُوشِكُ أَنْ تَنْهَارَ بِهَا فِي النَّارِ، فَشَفَا الْحُفْرَةِ أَوِ الْبِئْرِ: طَرَفُهَا، وَيُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْهَلَاكِ، قَالَ الرَّاغِبُ: مِنْهُ أَشَفَى عَلَى الْهَلَاكِ، أَيْ حَصَلَ عَلَى شَفَاهُ. وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَبَيْنَ الْهَلَاكِ فِي النَّارِ إِلَّا الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَلَا سِيَّمَا الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلًا: أَنْ أَخْرَجَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مِنَ الشِّرْكِ وَمَخَازِيهِ وَشَقَائِهِ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ حَتَّى صَارُوا بِهَذِهِ الْأُلْفَةِ أَسْعَدَ النَّاسِ، ثُمَّ صَارُوا سَادَاتِ الْأَرْضِ، وَأَنْقَذَهُمْ بِذَلِكَ مِنَ النَّارِ فَكَانُوا بِهِ سُعَدَاءَ الدَّارَيْنِ وَالْفَائِزِينَ بِالْحُسْنَيَيْنِ. أَفَلَيْسَ أَوَّلُ وَاجِبِ مَنْ شَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي لَا تَفْضُلُهَا نِعْمَةٌ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْ وَسَاوِسِ وَدَسَائِسِ أُولَئِكَ الْمَغْرُورِينَ بِسَلَفِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هِدَايَتِهِمْ؟ بَلَى، فَقَدْ وَضَحَ الْحَقُّ وَبَطَلَ الْإِفْكُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْظُرْ آيَةَ اللهِ، قَوْمٌ مُتَخَالِفُونَ بَيْنَ الْعَدَاوَاتِ وَالْإِحَنِ، يَتَرَبَّصُ كُلُّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ الْهَلَكَةَ عَلَى يَدِهِ، فَيَأْتِي اللهُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ فَيَجْمَعُهُمْ وَيُزِيلُ كُلَّ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّنَافُرِ وَيَجْعَلُهُمْ إِخْوَانًا تَرْجِعُ أَهْوَاؤُهُمْ كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ

لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَهُوَ حُكْمُ اللهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أَيْ لِيُعِدَّكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ بِهَا لِلِاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ فَلَا تَعُودُوا إِلَى عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْعُدْوَانِ.

ثُمَّ قَالَ: التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ الْبَشَرُ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ مِنْ قَبِيلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ فِي الْآيَاتِ، وَقِسْمٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَاسُ مِنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَا.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْخِلَافُ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ مِمَّا فُطِرَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [١١: ١١٨، ١١٩] فَاسْتِوَاءُ النَّاسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>