للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْخِلَافِ، وَيُعَادِي الْآخَرَ إِذَا خَالَفَهُ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ مَا هُوَ مُدَوَّنٌ فِي التَّارِيخِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَطْلُوبَ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَإِلَّا فَبِاللهِ كَيْفَ يَصْدُقُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مَثَلًا مُصِيبًا فِي كُلِّ مَا خَالَفَ بِهِ غَيْرَهُ؟ وَإِذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ مَعَ غَيْرِهِ؟ فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَمُرَّ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ عَلَى فُقَهَاءِ مَذْهَبِهِ وَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَرْجِعُوا عَنْ قَوْلِهِ إِلَى مَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الصَّوَابُ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ؟ وَهَذَا مَا يُقَالُ فِي أَتْبَاعِ كُلِّ مَذْهَبٍ.

هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخِلَافِ هُوَ الَّذِي ذَلَّتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَ عِزِّهَا، وَهَوَتْ بَعْدَ رِفْعَتِهَا وَضَعُفَتْ بَعْدَ قُوَّتِهَا، هُوَ الِافْتِرَاقُ فِي الدِّينِ وَذَهَابُ أَهْلِهِ مَذَاهِبَ تَجْعَلُهُمْ شِيَعًا تَتَحَكَّمُ فِيهِمُ الْأَهْوَاءُ كَمَا حَصَلَ مِنَ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، لَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ

خَالَفَهُ فِي رَأْيٍ إِلَّا وَيُبَادِرُ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِالتَّأْلِيفِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَضْلِيلِهِ وَتَفْنِيدِ مَذْهَبِهِ، وَيُقَابِلُهُ الْآخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، لَا يُحَاوِلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُحَادَثَةَ الْآخَرِ وَالِاطِّلَاعَ عَلَى دَلَائِلِهِ وَوَزْنَهَا بِمِيزَانِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ، فَالْوَاجِبُ أَوَّلًا: مُحَاوَلَةُ الْفَهْمِ وَالْإِفْهَامِ فِي الْبَحْثِ وَالْمُذَاكَرَةِ - أَيْ وَلَوْ كِتَابَةً - وَثَانِيًا: أَلَّا يَكُونَ الْخِلَافُ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ. قَالَ: فَمَا دَامَ الْمُسْلِمُ لَا يُخِلُّ بِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ وَلَا بِاحْتِرَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَلَى إِسْلَامِهِ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا تَحَكَّمَ الْهَوَى فَلَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَدْ بَاءَ بِهَا مَنْ قَالَهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.

ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُعَامَلَةِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفَرِّقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَرْجِعُونَ فِي النِّزَاعِ إِلَى حُكْمِ اللهِ وَأَهْلِ الذِّكْرِ مِنْهُمْ ; يَعْنِي أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ. فَإِذَا امْتَثَلْنَا أَمْرَ اللهِ وَنَهْيَهُ فَاتَّقَيْنَا الْخِلَافَ الَّذِي لَنَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ، وَحَكَّمْنَا كِتَابَ اللهِ وَمَنْ أَمَرَ اللهُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ فِيمَا نَتَنَازَعُ فِيهِ أَمِنَّا مِنْ غَائِلَةِ الْخِلَافِ، وَكُنَّا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.

وَيَدْخُلُ فِي كَلِمَةِ الْمُعَامَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنَ الْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهَا كُلِّهَا إِلَى هَدْيِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ وَرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ، وَقَدْ وَسَّعْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مِنْ قَبْلُ، وَذَكَرْنَا وَجْهَ الْخُرُوجِ مِنْهُ، فَارْجِعْ إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [٢: ٢٥٣] الْآيَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>