للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حِفَاظُ الْجَامِعَةِ وَسِيَاجُ الْوَحْدَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْكُمْ هَلْ مَعْنَاهُ: بَعْضُكُمْ، أَمْ " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ؟ ذَهَبَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) إِلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الْكَشَّافُ وَغَيْرُهُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِالثَّانِي، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: وَلْتَكُونُوا أُمَّةً تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَدِّ " لِيَكُنْ لِي مِنْكَ صَدِيقٌ " فَالْأَمْرُ عَامٌّ، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [١٠٣: ١ - ٣] فَإِنَّ التَّوَاصِيَ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [٥: ٧٨، ٧٩] وَمَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهِ. وَقَدْ أَشَارَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى الِاعْتِرَاضِ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَفِي النَّاسِ جَاهِلُونَ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْمَفْرُوضَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ خِطَابُ التَّنْزِيلِ هُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجْهَلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعِلْمِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ يُرَادُ بِهِ مَا عَرَفَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّهُ وَهُوَ مَا أَنْكَرَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَلَا يَلْزَمُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا قِرَاءَةُ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَى الدُّرِّ، وَلَا فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَا الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا الْمُرْشِدُ إِلَيْهِ - مَعَ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ - كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ الْمَنْقُولَةُ بِالتَّوَاتُرِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهِ، فَالَّذِينَ مَنَعُوا عُمُومَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ دِينًا.

ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَهَا مَرَاتِبٌ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِيَ دَعْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَائِرَ الْأُمَمِ إِلَى الْخَيْرِ وَأَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى، وَهُوَ الَّذِي يَتَّجِهُ بِهِ قَوْلُ الْمُفَسِّرِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِ: الْإِسْلَامُ. وَقَدْ فَسَّرْنَا الْإِسْلَامَ مِنْ قَبْلُ بِأَنَّهُ دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالرُّجُوعُ عَنِ الْهَوَى إِلَى حُكْمِهِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِنَّا بِحُكْمِ جَعْلِنَا أُمَّةً وَسَطًا وَشُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - وَخَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ - كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ آيَاتٍ مُقَيَّدًا بِكَوْنِنَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ - وَبِحُكْمِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ

الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتُوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [٢٢: ٤١]

<<  <  ج: ص:  >  >>