للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُسْلِمِينَ شُورَى، وَمَجِيءُ النَّصِّ الْأَوَّلِ فِي الذِّكْرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ يُؤَكِّدُ كَوْنَهُ فَرْضًا حَتْمًا، كَمَا عُهِدَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَسَالِيبِ الْبَلِيغَةِ وَمَرَّ مَعَنَا كَثِيرٌ مِنْهَا رَاجِعْ تَفْسِيرَ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [٢: ٢٢٨] الْآيَةَ، وَالنَّصُّ الثَّانِي صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ وَالضَّامِنُ لَهُ الْأُمَّةُ الْمُخَاطَبَةُ بِالتَّكَالِيفِ فِي أَكْثَرِ النُّصُوصِ. وَإِنَّمَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ كَمَا يَأْتِي مُبَيَّنًا عَنْهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

قَالَ: وَمِمَّا يُنَاطُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ مَعْرُوفٍ - النَّظَرُ فِي تَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ فِي مَكَانٍ مَا طَائِفَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ بِمَا يَجِبُ اتَّخَذْتَ الْوَسَائِلَ لِتَعْلِيمِهِمْ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَسَادُ مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَدُّوا لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا لَمْ يَسْعَوْا إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُوهُمْ، وَلَا يَجْهَلُ أَحَدٌ أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تَصَدَّى لِتَعْلِيمِ النَّاسِ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ مُنْتَظِرًا سُؤَالَ النَّاسِ لِيُفِيدَهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ اهْتِدَاءً بِهَدْيِهِ.

قَالَ: ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الْقَائِمِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أُمَّةً يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهَا رِيَاسَةٌ تُدَبِّرُهَا ; لِأَنَّ أَمْرَ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ رِيَاسَةٍ يَكُونُ مُخْتَلًّا مُعْتَلًّا، فَكُلُّ كَوْنٍ لَا رِيَاسَةَ فِيهِ فَاسِدٌ، فَالرَّأْسُ هُوَ مَرْكَزُ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْضَاءِ فِي أَعْمَالِهَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ رَئِيسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَصْدَرَ النِّظَامِ وَتَوْزِيعِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْعَامِلِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجَّهُونَ إِلَى دَعْوَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجَّهُونَ إِلَى إِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ، وَمَقَامُ الرِّيَاسَةِ يَخْتَارُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِكُلِّ عَمَلٍ وَلِكُلِّ بِلَادٍ مَنْ يَكُونُونَ أَكْفَاءَ لِلْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ فِيهَا ; لِتَكُونَ أَعْمَالُهُمْ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَقْصِدِ الْأُمَّةِ الْعَامِّ، فَإِنَّ مِنْ مَعْنَى الْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَتَكَوَّنُ مِنْهُمْ وَحْدَةٌ فِي الْقَصْدِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَسَيْرِهِمْ فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْمَقَاصِدُ فَسَدَ الْعَمَلُ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَتَنْكِيثِ الْقُوَى ; وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ.

قَالَ: ثُمَّ إِنَّ كَوْنَ الْأُمَّةِ الْخَاصَّةِ مُنْتَخَبَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ الْعَامَّةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ لِلْعَامَّةِ رِقَابَةٌ وَسَيْطَرَةٌ عَلَى الْخَاصَّةِ تُحَاسِبُهَا عَلَى تَفْرِيطِهَا وَلَا تُعِيدُ انْتِخَابَ مَنْ يُقَصِّرُ فِي عَمَلِهِ لِمِثْلِهِ. فَالْأُمَّةُ الصُّغْرَى الْمُنْتَخَبَةُ (بِفَتْحِ الْخَاءِ) تَكُونُ مُسَيْطِرَةً عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ الْكُبْرَى الْمُنْتَخِبَةِ (بِكَسْرِ الْخَاءِ) وَهَذِهِ تَكُونُ مُسَيْطِرَةً عَلَى الْأُمَّةِ الصُّغْرَى، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ فِي تَكَافُلٍ وَتَضَامُنٍ.

بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِأَنْ تَكُونَ مِنَّا أُمَّةٌ تَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَتَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ دُونَ سِوَاهُمْ - لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الدِّينَ وَيَحْفَظُونَ سِيَاجَهُ، وَبِهِمْ تَتَحَقَّقُ الْوَحْدَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ - نَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يَذْهَبُ بِتِلْكَ الْوَحْدَةِ وَيَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِيَامُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ شِيعَةٍ تَذْهَبُ مَذْهَبًا يُخَالِفُ مَذْهَبَ الْأُخْرَى، وَصَارَ كُلٌّ يَنْصُرُ مَذْهَبَهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>