للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْأَمْرِ الثَّابِتِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ، وَلَا لِلِاحْتِمَالَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ، فَلَا عُذْرَ لِأُمَّتِكَ إِذَا اتَّبَعَتْ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهَا فَتَفَرَّقَتْ فِي الدِّينِ وَذَهَبَ فِيهِ مَذَاهِبَ وَصَارَتْ شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [٣٠: ٣٢] ، وَبِخِلَافِ الْآخَرِينَ مُسْتَمْسِكُونَ، فَمَا أُمِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الِاعْتِصَامِ وَوُعِدُوا عَلَيْهِ بِالْفَلَاحِ الْعَظِيمِ، وَلَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَأُوعِدُوا عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ إِلَّا لِيَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّحِدَةً فِي الدِّينِ مُتَّفِقَةً فِي الْمَقَاصِدِ، يَعْذُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذَا فَهِمَ غَيْرَ مَا فَهِمَ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَفْهَامُ، كَوُجُوبِ الِاتِّحَادِ وَالِاعْتِصَامِ، وَتَوْحِيدِ اللهِ وَتَقْوَاهُ، وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ هِدَايَتَهُمْ إِلَى مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ وَيَتِمُّ بِهِ نِظَامُ اجْتِمَاعِهِمْ، فَإِذَا هُمْ فَسَقُوا عَنْ أَمْرِهِ وَحَلَّ بِهِمُ الْبَلَاءُ فَإِنَّمَا يَكُونُونَ هُمُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ، وَكَذَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ. فَالْكَلَامُ فِي الْأُمَمِ وَعُقُوبَتِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحِلَّ بِهَا بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ فَشَا فِيهَا فَزَحْزَحَهَا عَنْ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [١١: ١٠٢] .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَهُوَ مَالِكُ الْعِبَادِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي شُئُونِهِمْ وَإِلَى سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ تَرْجِعُ أُمُورُهُمْ وَلِكُلِّ سُنَّةٍ مِنْهَا غَايَةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، فَلَا يَطْمَعُ أَهْلُ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ بِالْوُصُولِ إِلَى غَايَةِ أَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ كَالدَّلِيلِ عَلَى مَا قَبْلَهَا. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّنَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ هُوَ الظُّلْمُ بِالتَّشْرِيعِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي أَحْكَامِ الصِّيَامِ: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [٢: ١٨٥] وَقَوْلِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [٥: ٦] إِلَخْ. وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلْخِلَافِ وَكَثْرَةِ الْآرَاءِ لَوْلَا الْمَذَاهِبُ الَّتِي وُضِعَتْ أُصُولُهَا وَقَوَاعِدُهَا ثُمَّ نَظَرَ أَصْحَابُهَا فِي الْقُرْآنِ يَلْتَمِسُونَ تَأْيِيدَهَا بِهِ وَحَمْلَهُ عَلَيْهَا. فَقَدْ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ جَاءَ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهُوَ عَامُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ مُطْلَقًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَا مِنْ

أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَمَا لَا يُرِيدُهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ حَتْمًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَا هُوَ ظُلْمٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمْ مِنْهُمْ لَا مِنْهُ، وَوَجَّهُوا الْآيَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا. وَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ: إِنَّ وُقُوعَ الظُّلْمِ مِنْهُ - تَعَالَى - مُحَالٌ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ مِلْكٌ فَيَكُونُ ظَالِمًا بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ بَعْدَ نَفْيِ إِرَادَةِ الظُّلْمِ أَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>