للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ التَّقْوَى وَخَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ، وَطَمِعُوا فِي الْغَنِيمَةِ وَفَشِلُوا وَتَنَازَعُوا فِي الْأَمْرِ فَضَعُفَ اسْتِعْدَادُ أَرْوَاحِهِمْ، فَلَمْ تَرْتَقِ إِلَى أَهْلِيَّةِ الِاسْتِمْدَادِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْهُمْ مَدَدٌ ; لِأَنَّ الْإِمْدَادَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ.

هَذَا هُوَ السَّبَبُ لِمَا حَصَلَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا، وَأَمَّا حِكْمَتُهُ فَهِيَ تَمْحِيصُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ [٣: ١٤١] إِلَخْ. وَتَرْبِيَتُهُمْ بِالْفِعْلِ عَلَى إِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [٣: ١٣٧] وَبَيَانُ أَنَّ هَذِهِ السُّنَنَ حَاكِمَةٌ حَتَّى عَلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ قَتْلَ الرَّسُولِ أَوْ مَوْتَهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُثَبِّطًا لِلْهِمَمِ وَلَا دَاعِيَةً إِلَى الِانْقِلَابِ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْعِبَادِ شَيْءٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ نَتِيجَةُ عَمَلِهِمْ إِذْ هُوَ عُقُوبَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لَهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [٣: ١٦٥] إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [٣: ١٤٤] إِلَخْ وَغَيْرِهِمَا فَلَا نَتَعَجَّلُهُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِهِ وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ.

وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي الْوَقْعَتَيْنِ: أَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ هُنَا: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [٨: ١٠] وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ غَيْرُ وَعْدِ اللهِ وَبِشَارَتِهِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ يَوْمَئِذٍ: اللهُمَّ

أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا قَالَ عُمَرُ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ لِرَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. وَأَنْزَلَ اللهُ يَوْمَئِذٍ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ [٨: ٩] الْآيَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. فَكَانَ بِهَذَا الْوَعْدِ اطْمِئْنَانُ قُلُوبِهِمْ لَا بِسِوَاهُ ; فَلِذَلِكَ قَدَّمَ (بِهِ) عَلَى (قُلُوبُكُمْ) وَأَمَّا فِي يَوْمِ أُحُدٍ فَلَمْ تَكُنِ الْحَالُ كَذَلِكَ - كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَلَمْ تَعُدِ الْبِشَارَةُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ فَقَالَ: وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَبَعْضٌ آخَرُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ، فَإِنَّ ذِكْرَ النَّصْرِ بِبَدْرٍ إِنَّمَا جَاءَ اسْتِطْرَادًا ; وَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَالْخَمْسَةِ الْآلَافِ مُتَعَلِّقًا بِهِ - وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; أَيْ إِنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيَقْطَعَ طَرَفًا، أَوْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِهِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا. وَمَعْنَى قَطْعِ الطَّرَفِ مِنْهُمْ إِهْلَاكُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ: " قُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ " إِذَا هَلَكُوا، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَعَبَّرَ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>