للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِسَبَبِ الرِّبَا، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَصِيرُ دَاعِيًا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الرِّبَا حَتَّى يَجْمَعُوا الْمَالَ وَيُنْفِقُوهُ عَلَى الْعَسْكَرِ فَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. فَلَا جَرَمَ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ اهـ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيُقَالُ فِي الثَّانِي: إِنَّ الْمَرْوِيَّ فِي السِّيَرِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْفَقُوا فِي حَرْبِ أُحُدٍ مَا رَبِحُوا فِي تِجَارَةِ الْعِيرِ الَّتِي جَاءَتْ مِنَ الشَّامِ عَامَ بَدْرٍ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَمَا أَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ غَيْرُ وَجِيهٍ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي بَيَانِ أَنَّ اللهَ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أَذِلَّةٌ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا نُصِرُوا بِتَقْوَى اللهِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ; وَلِذَلِكَ خُذِلُوا فِي أُحُدٍ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ وَالطَّمَعِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْدُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ مَا اعْتَصَمُوا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، وَقَدْ كَانَ مِنْ مُوَادَّاتِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ وَاتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنْهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَابَى كَمَا كَانُوا يُرَابُونَ، وَكَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مَظِنَّةَ أَنْ يُرَابِيَ تَوَسُّلًا لِجَلْبِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ بِسُهُولَةٍ، فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِي الْآيَاتِ هَكَذَا: نَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِ الْبِطَانَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِشُرُوطِهَا الَّتِي هِيَ مَثَارُ الضَّرَرِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ بِهِ ضَرَرَهُمْ وَشَرَّ كَيْدِهِمْ وَهُوَ تَقْوَى اللهِ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ ذَلِكَ طَرْدًا وَعَكْسًا بِذِكْرِ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَوَقْعَةِ أُحُدٍ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ عَمَلٍ آخَرَ مِنْ شَرِّ أَعْمَالِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ وَمَنِ اقْتَدَى بِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَشَدِّهَا ضَرَرًا وَهُوَ أَكْلُ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً (قَالَ) : وَقَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ تَمْهِيدًا لِهَذَا النَّهْيِ وَحُجَّةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ الْمُتَوَقَّعَ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ سَبَبَ السَّعَادَةِ وَإِنَّمَا سَبَبُهَا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْوَى وَالِامْتِثَالِ.

أَقُولُ: وَيُقَوِّي رَأْيَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى نَحْوِ سَبْعِينَ آيَةً فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْيَهُودِ، وَوَرَدَتْ قِصَّةُ أُحُدٍ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْيَهُودِ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَائِهَا يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى الْيَهُودِ وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْمَالِ وَالنَّفَقَاتِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ

الْغَزْوَةِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَإِنْفَاقِهِ وَفِي آخِرِهَا شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُنَاسَبَةٌ وَاشْتِبَاكٌ بِصِلَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْيَهُودِ، وَالْحَرْبُ مِمَّا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَحَالُ الْيَهُودِ فِيهِ مَعْلُومَةٌ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَالدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَالتَّنْفِيرُ عَنِ الطَّمَعِ فِيهِ، وَشَرُّهُ أَكْلُ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ; وَلِذَلِكَ قَدَّمَ النَّهْيَ عَنْ هَذَا الشَّرِّ عَلَى الْأَمْرِ بِذَلِكَ الْخَيْرِ تَقْدِيمًا لِلتَّخْلِيَةِ عَلَى التَّحْلِيَةِ فَقَالَ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً هَذَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَآيَاتُ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ، بَلْ هِيَ آخِرُ آيَاتِ الْأَحْكَامِ نُزُولًا، وَالْمُرَادُ بِالرِّبَا فِيهَا رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الْمَعْهُودُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ عِنْدَ نُزُولِهَا لَا مُطْلَقُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ، فَمَا كُلُّ مَا يُسَمَّى زِيَادَةً مُحَرَّمٌ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فِي إِسْلَامِكُمْ، بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمْ لَهُ كَمَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>