للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ دَلَّنَا عَلَى مَأْخَذِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ إِذْ أَمَرَنَا أَنْ نَسِيرَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ اجْتِلَائِهَا وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا، وَلَا يُحْتَجُّ عَلَيْنَا بِعَدَمِ تَدْوِينِ الصَّحَابَةِ لَهَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُدَوِّنُوا غَيْرَ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الْأُصُولُ وَالْقَوَاعِدُ، وَفُرِّعَتْ مِنْهَا الْفُرُوعُ وَالْمَسَائِلُ، (قَالَ) وَإِنَّنِي لَا أَشُكُّ فِي كَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ السُّنَنِ وَعَالِمِينَ بِمُرَادِ اللهِ مِنْ ذِكْرِهَا. يَعْنِي أَنَّهُمْ بِمَا لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشُّعُوبِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُمْ وَمِنَ التَّجَارِبِ وَالْأَخْبَارِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وَبِمَا مُنِحُوا مِنَ الذَّكَاءِ وَالْحِذْقِ وَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ كَانُوا يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَيَهْتَدُونَ بِهَا فِي حُرُوبِهِمْ وَفُتُوحَاتِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ لِلْأُمَمِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا ; لِذَلِكَ قَالَ: وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْعَمَلِ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ الْمَحْضِ وَكَذَلِكَ كَانَتْ عُلُومُهُمْ كُلُّهَا، وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ حَالَةُ الْعَصْرِ اخْتِلَافًا احْتَاجَتْ مَعَهُ الْأُمَّةُ إِلَى تَدْوِينِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَعِلْمِ الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهِمَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً أَيْضًا إِلَى تَدْوِينِ هَذَا الْعِلْمِ، وَلَكَ أَنْ تُسَمِّيَهُ عِلْمَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عِلْمَ الِاجْتِمَاعِ أَوْ عِلْمَ السِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ.

سَمِّ بِمَا شِئْتَ فَلَا حَرَجَ فِي التَّسْمِيَةِ.

ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ ; فَإِذَا

أَنْتُمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَ الصَّالِحِينَ فَعَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَتِهِمْ، وَإِنْ سَلَكْتُمْ سُبُلَ الْمُكَذِّبِينَ فَعَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَتِهِمْ. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُحُدٍ، فَفِي الْآيَةِ مَجَارِي أَمْنٍ وَمَجَارِي خَوْفٍ، فَهُوَ عَلَى بِشَارَتِهِ لَهُمْ فِيهَا بِالنَّصْرِ وَهَلَاكِ عَدُوِّهِمْ يُنْذِرُهُمْ عَاقِبَةَ الْمَيْلِ عَنْ سُنَنِهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَارُوا فِي طَرِيقِ الضَّالِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَهُونَ إِلَى مِثْلِ مَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَالْآيَةُ خَبَرٌ وَتَشْرِيعٌ، وَفِي طَيِّهَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ.

وَأَقُولُ: السُّنَنُ جَمْعُ سُنَّةٍ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعَبَّدَةُ وَالسِّيرَةُ الْمُتَّبَعَةُ أَوِ الْمِثَالُ الْمُتَّبَعُ، قِيلَ إِنَّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَالَى صَبَّهُ، فَشَبَّهَتِ الْعَرَبُ الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ بِالْمَاءِ الْمَصْبُوبِ، فَإِنَّهُ لِتَوَالِي أَجْزَائِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ يَكُونُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَمَعْنَى (خَلَتْ) : مَضَتْ وَسَلَفَتْ.

أَيْ إِنَّ أَمْرَ الْبَشَرِ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَمَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنْ مُصَارَعَةِ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ وَالْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ جَرَى عَلَى طُرُقٍ قَوِيمَةٍ وَقَوَاعِدَ ثَابِتَةٍ اقْتَضَاهَا النِّظَامُ الْعَامُّ وَلَيْسَ الْأَمْرُ أُنُفًا كَمَا يَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا تَحَكُّمًا وَاسْتِبْدَادًا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْحَشْوِيَّةُ.

جَاءَ ذِكْرُ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، كَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ: قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [٨: ٣٨] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [١٥: ١٣] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا [١٨: ٥٥] وَقَوْلِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>