للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْوَاقِعِ تَكُونُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَعْمَالِ النَّاسِ. فَلَا تَكُونُ الدَّوْلَةُ لِفَرِيقٍ دُونَ أَخَرَ جُزَافًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ عَرَفَ أَسْبَابَهَا وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. أَيْ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ فَعَلَيْكُمْ أَلَّا تَهِنُوا وَتَضْعُفُوا بِمَا أَصَابَكُمْ لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الدَّوْلَةَ تَدُولُ. وَالْعِبَارَةُ تُومِئُ إِلَى شَيْءٍ مَطْوِيٍّ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ لِكُلِّ دَوْلَةٍ سَبَبًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتِ الْمُدَاوَلَةُ مَنُوطَةً بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُفْضِي إِلَيْهَا كَالِاجْتِمَاعِ وَالثَّبَاتِ وَصِحَّةِ النَّظَرِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ وَإِعْدَادِ مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الْقُوَّةِ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَقُومُوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَتُحْكِمُوهَا أَتَمَّ الْإِحْكَامِ. وَفِي الْجُمْلَةِ مِنَ الْإِيجَازِ وَجَمْعِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ مَا لَا يُعْهَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ.

ثُمَّ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُقِيمَ سُنَّتَهُ فِي مُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ [٣: ١٦٧] أَيْ يُمَيِّزُهُمْ مِنْهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي إِجْمَالِ الْقِصَّةِ وَسَيَأْتِي ذِكْرٌ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَذْهَبُ الْعُقُولُ فِي تَعْيِينِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَتَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ فِي كُلِّ فَجٍّ، أَوْ تَلْتَمِسُهُ فِي فَوَائِدِ قَاعِدَةِ جَعْلِ الْأَيَّامِ دُوَلًا بَيْنَ النَّاسِ، وَعَدَمِ حَصْرِ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ فِي قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، فَكُلَّ مَا وَجَدْتَهُ يَصْلُحُ حِكْمَةً وَعِلَّةً لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَدَدْتَهُ مِنَ الْمَطْوِيِّ الْمَحْذُوفِ، وَأَعَمُّهُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ فِي التَّقْدِيرِ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ لِيَقُومَ بِذَلِكَ الْعَدْلُ وَيَسْتَقِرَّ النِّظَامُ، وَيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِي السُّنَنِ الْعَامَّةِ، وَالْبَاحِثُ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْبَالِغَةِ، أَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ فِي هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ الِاجْتِمَاعِيَّ الَّذِي يُدَالُ بِهِ قَوْمٌ عَلَى قَوْمٍ مِمَّا يَظْهَرُ وَيَتَمَيَّزُ بِهِ الْإِيمَانُ الصَّحِيحُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: " فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّلُ مَحْذُوفًا مَعْنَاهُ: وَلِيَتَمَيَّزَ الثَّابِتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنَ الَّذِينَ عَلَى حَرْفٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، بِمَعْنَى فَعَلْنَا ذَلِكَ فِعْلَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ مِنَ الثَّابِتُ مِنْكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ الثَّابِتِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لِيُعَلِّمَهُمْ عِلْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَوْجُودًا مِنْهُمُ الثَّبَاتُ. وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَحْذُوفَةً وَهَذَا عَطْفٌ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ وَفَعَلْنَا ذَلِكَ (أَيْ مُدَاوَلَةَ الْأَيَّامِ) لِيَكُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ (أَيْ

مِنَ الْمَصَالِحِ) وَلِيَعْلَمَ اللهُ. وَإِنَّمَا حُذِفَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا فَعَلَ لَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ لِيُسَلِّيَهُمْ عَمَّا جَرَى عَلَيْهِمْ وَلِيُبَصِّرَهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ يَسُوؤُهُ مَا يُجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَلَا يَشْعُرُ أَنَّ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ مَا هُوَ غَافِلٌ عَنْهُ " اهـ. وَجَعَلَ ابْنُ جَرِيرٍ التَّقْدِيرَ هَكَذَا: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ يُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ فِيهِ، وَقَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِعِلْمِ اللهِ فِيهِ عِلْمُ عِبَادِهِ وَأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَهُ بِعِلْمِ الظُّهُورِ أَيْ لِيُظْهِرَ عِلْمَهُ بِذَلِكَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>