للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْخِطَابُ فِيهِ لِمَنْ شَهِدَ وَقْعَةَ " أُحُدٍ " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - أَرْشَدَهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَضْعُفُوا أَوْ يَحْزَنُوا، وَبَيَّنَ لَهُمْ حِكْمَةَ مَا أَصَابَهُمْ وَأَنَّهُ مُنْطَبِقٌ عَلَى سُنَّتِهِ فِي مُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ وَفِي تَمْحِيصِ أَهْلِ الْحَقِّ بِالشَّدَائِدِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالتَّسْلِيَةِ مَا يُرَبِّي الْمُؤْمِنَ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْغَلَبَ وَالسِّيَادَةَ بِالْحَقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ هَذَا أَنَّ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ لَا تُنَالُ أَيْضًا إِلَّا بِالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ فَهِيَ كَسَعَادَةِ الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ سُنَّةُ اللهِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا

مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (٢١٤) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمَعْنَى عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ (أَمْ) لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ أَوْ لِلْمُعَادَلَةِ أَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ وَالْإِرْشَادِ لِسُنَّتِهِ وَحُكْمِهِ فِيمَا حَصَلَ الْمُتَضَمِّنِ للِلَّوْمِ وَالْعِتَابِ فِي مِثْلِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقَوْلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ إِلَخْ. هَلْ جَرَيْتُمْ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ؟ هَلْ تَدَبَّرْتُمْ تِلْكَ الْحِكَمَ؟ أَمْ حَسِبْتُمْ كَمَا يَحْسَبُ أَهْلُ الْغُرُورِ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَأَنْتُمْ إِلَى الْآنِ لَمْ تَقُومُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حَقَّ الْقِيَامِ وَلَمْ تَتَمَكَّنْ صِفَةُ الصَّبْرِ مِنْ نُفُوسِكُمْ تَمَامَ التَّمَكُّنِ! وَالْجَنَّةُ إِنَّمَا تُنَالُ بِهِمَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دُخُولِهَا بِدُونِهِمَا. لَوْ قُمْتُمْ بِذَلِكَ لَعَلِمَهُ - تَعَالَى - مِنْكُمْ وَجَازَاكُمْ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فِي غَزْوَتِكُمْ هَذِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى أَنَّهُ سَيُجَازِيكُمْ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْمُخْتَارُ فِي مَعْنَى (أَمْ) هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: " قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي (أَمْ حَسِبْتُمْ) إِنَّهُ نَهْيٌ وَقَعَ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَأْتِي لِلتَّبْكِيتِ، وَتَلْخِيصُهُ: لَا تَحْسَبُوا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْكُمُ الْجِهَادُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [٢٩: ١، ٢] وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ (أَمْ) الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مَا تَأْتِي فِي كَلَامِهِمْ وَاقِعَةٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ يُشَكُّ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، يَقُولُونَ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَ أَمْ عَمْرًا؟ مَعَ تَيَقُّنِ وُقُوعِ الضَّرْبِ بِأَحَدِهِمَا. قَالَ: وَعَادَةُ الْعَرَبِ يَأْتُونَ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَوْكِيدًا، فَلَمَّا قَالَ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا تُؤْمَرُونَ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ مُجَاهَدَةٍ وَصَبْرٍ؟ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ ".

وَقَدْ جَرَيْنَا فِي هَذَا عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ هُنَا بِمَعْنَى نَفْيِ الْمَعْلُومِ، كَنَفْيِ اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ الْمَلْزُومِ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا مِنْ قُرْبٍ فِي تَفْسِيرِ: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْكَشَّافُ هُنَا وَقَالَ: " هُوَ بِمَعْنَى لَمَّا تُجَاهِدُوا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْلُومِ فَنَزَلَ نَفْيُ الْعِلْمِ مَنْزِلَةَ نَفْيِ مُتَعَلِّقِهِ ; لِأَنَّهُ مُنْتَفٍ بِانْتِفَائِهِ. يَقُولُ الرَّجُلُ: مَا عَلِمَ

اللهُ فِي فُلَانٍ خَيْرًا، يُرِيدُ مَا فِيهِ خَيْرٌ حَتَّى يَعْلَمَهُ. وَلَمَّا بِمَعْنَى " لَمْ " إِلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّوَقُّعِ فَدَلَّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَادِ فِيمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>