للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَّا فِيمَا ارْتِبَاطُهُ بِالْعَمَلِ ارْتِبَاطَ الْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ عَلَى جَارِي الْعَادَةِ كَارْتِبَاطِ الْفَقْرِ بِالْإِسْرَافِ، وَالذُّلِّ بِالْجُبْنِ وَضَيَاعِ السُّلْطَانِ بِالظُّلْمِ، وَكَارْتِبَاطِ الثَّرْوَةِ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي الْأَغْلَبِ، وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ النَّاسِ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِمْ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمٍ آخَرَ.

" أَمَّا شَأْنُ الْأُمَمِ فَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الرُّوحَ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللهُ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ تَصْحِيحِ الْفِكْرِ وَتَسْدِيدِ النَّظْرَةِ وَتَأْدِيبِ الْأَهْوَاءِ وَتَحْدِيدِ مَطَامِحِ الشَّهَوَاتِ، وَالدُّخُولِ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنْ بَابِهِ، وَطَلَبِ كُلِّ رَغِيبَةٍ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَحِفْظِ الْأَمَانَةِ، وَاسْتِشْعَارِ الْأُخُوَّةِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّنَاصُحِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ - ذَلِكَ الرُّوحُ هُوَ مَصْدَرُ حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَشْرِقِ سَعَادَتِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَلَنْ يَسْلُبَ اللهُ عَنْهَا نِعْمَتَهُ مَا دَامَ هَذَا الرُّوحُ

فِيهَا، يَزِيدُ اللهُ النِّعَمَ بِقُوَّتِهِ، وَيُنْقِصُهَا بِضَعْفِهِ حَتَّى إِذَا فَارَقَهَا ذَهَبَتِ السَّعَادَةُ عَلَى أَثَرِهِ وَتَبِعَتْهُ الرَّاحَةُ إِلَى مَقَرِّهِ، وَغَيَّرَ اللهُ عِزَّةَ الْقَوْمِ بِالذِّلَّةِ، وَكُثْرَهُمْ بِالْقِلِّ، وَنَعِيمَهُمْ بِالشَّقَاءِ، وَرَاحَتَهُمْ بِالْعَنَاءِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الظَّالِمِينَ أَوِ الْعَادِلِينَ فَأَخَذَهُمْ بِهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [١٧: ١٦] ، أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ فَفَسَقُوا عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ، ثُمَّ لَا يَنْفَعُهُمُ الْأَنِينُ وَلَا يُجْدِيهِمُ الْبُكَاءُ، وَلَا يُفِيدُهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ صُوَرِ الْأَعْمَالِ وَلَا يُسْتَجَابُ مِنْهُمُ الدُّعَاءُ، وَلَا كَاشِفَ لِمَا نَزَلَ بِهِمْ إِلَّا أَنْ يَلْجَئُوا إِلَى ذَلِكَ الرُّوحِ الْأَكْرَمِ فَيَسْتَنْزِلُوهُ مِنْ سَمَاءِ الرَّحْمَةِ بِرُسُلِ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [١٣: ١١] سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [٣٣: ٦٢] وَمَا أَجَلَّ مَا قَالَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي اسْتِسْقَائِهِ: " اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ " عَلَى هَذِهِ السُّنَنِ جَرَى سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَبَيْنَمَا كَانَ الْمُسْلِمُ يَرْفَعُ رُوحَهُ بِهَذِهِ الْعَقَائِدِ السَّامِيَةِ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ بِمَا يُتْبِعُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْجَلِيَّةِ كَانَ غَيْرُهُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُزَلْزِلُ الْأَرْضَ بِدُعَائِهِ وَيَشُقُّ الْفُلْكَ بِبُكَائِهِ، وَهُوَ وَلِعٌ بِأَهْوَائِهِ مَاضٍ فِي غُلَوَائِهِ، وَمَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُ ظَنُّهُ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا اهـ.

أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْتِمْرَارُ الْحَرْبِ وَعَدَمَهُ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْقَائِدِ بِحَيْثُ إِذَا قُتِلَ يَنْهَزِمُ الْجَيْشُ أَوْ يَسْتَسْلِمُ لِلْأَعْدَاءِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ جَارِيَةً عَلَى نِظَامٍ ثَابِتٍ لَا يُزَلْزِلُهُ فَقْدُ الرُّؤَسَاءِ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ نِظَامُ الْحُرُوبِ وَالْحُكُومَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ تَبَعًا لِرُؤَسَائِهِمْ يَحْيَوْنَ لِحَيَاتِهِمْ وَيُخْذَلُونَ بِمَوْتِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ وُجُودَ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ بَعْدَ فَقْدِ الْقَائِدِ كَالْعَدَمِ.

إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تُقَدِّرُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ حَقَّ قَدْرِهَا تُعِدُّ لِكُلِّ عِلْمٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِكُلِّ عَمَلٍ تَقُومُ

<<  <  ج: ص:  >  >>