للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْإِرَادَةُ تُصَغِّرُ الْكَبِيرَ وَتُكَبِّرُ الصَّغِيرَ. وَتَرْفَعُ الْوَضِيعَ وَتَضَعُ الرَّفِيعَ، وَبِهَا تَتَّسِعُ دَائِرَةُ وُجُودِ الشَّخْصِ حَتَّى تُحِيطَ بِكُرَةِ الْأَرْضِ، بَلْ تَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَتَبَوَّأُ مِنْ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ فِي عَالَمِ الْمَعْقُولِ وَالْأَرْوَاحِ، وَإِذَا كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ دَارَ الْبَقَاءِ فَإِنَّ وَجُودَهُ يَكُونُ كَبِيرًا بِحَسَبِ كِبَرِ إِرَادَتِهِ وَوَاسِعًا بِسَعَةِ مَقْصِدِهِ ; وَبِذَلِكَ

تَعْلُو نَفْسُهُ عَلَى نُفُوسِ مَنْ أَخْلَدُوا إِلَى الشَّهَوَاتِ وَكَأَنَّ حَظَّهُمْ مِنْ عِلْمِهِمْ كَحَظِّ الْحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ: أَكْلٌ وَشُرْبٌ وَسِفَادٌ وَبَغْيٌ مِنَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.

قِسْ عَلَى هَذَا وُجُودُ مَنْ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْقُرْبَ مِنَ اللهِ وَالتَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِهِ وَالتَّحَقُّقَ بِتَجَلِّيَاتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، الْقُرْبَ مِنَ الْوَاسِعِ الْعَلِيمِ، الْخَلَّاقَ الْحَكِيمِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِسَعَةِ الْقَلْبِ، وَبَسْطَةِ الْعِلْمِ، وَإِقَامَةِ النِّظَامِ وَالْحِكْمَةِ، وَنَصْبِ مِيزَانِ الْعَدْلِ وَبَسْطِ بِسَاطِ الرَّحْمَةِ، أَلَّا تَرَاهُ يَكُونُ أَشْرَفَ وُجُودٍ بَشَرِيٍّ وَأَعْلَاهُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ وَسُنَنِ اللهِ؟

لَسْتُ بِهَذَا الرَّمْزِ إِلَى مَكَانَةِ إِرَادَةِ الْبِرِّ مِنْ تَصْرِيفِ أَعْمَالِهِمْ وَتَوْجِيهِهَا إِلَى سَعَادَتِهِمْ أَوْ شَقَائِهِمْ بِخَارِجٍ عَنْ مَوْضُوعِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; فَإِنَّ رَبَّ الْعِزَّةِ قَدْ جَعَلَ عَطَاءَهُ لِلنَّاسِ مُعَلَّقًا عَلَى إِرَادَتِهِمْ وَلَا يُقَدِّرُ هَذَا حَقَّ قَدْرِهِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّذْكِيرِ بَلْ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ.

إِذَا فَقِهْتَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أَيِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا يُعَرِّجُ بِهِمْ إِلَى مُسْتَوَى الْكَمَالِ، فَتَكُونُ أَعْمَالُهُمْ صَالِحَةً رَافِعَةً لِنُفُوسِهِمْ وَنَافِعَةً لِغَيْرِهِمْ. وَأَبْهَمَ هَذَا الْجَزَاءَ لِتَعْظِيمِ شَأْنِهِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِي جَاهَدُوا وَصَبَرُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِهِمْ قُوَّةَ إِرَادَاتِهِمْ، فَكَانُوا السَّبَبَ فِي انْجِلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ الَّذِي يُعَيِّنُهُ الْوَصْفُ تَنْوِيهًا بِهِمْ وَوَعْدًا لَهُمْ بِالْجَزَاءِ، وَهُوَ مِنَ التَّفْصِيلِ لِإِجْمَالِ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ.

ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ الْمُنَبِّهِ لَهُمْ إِلَى اسْتِعْدَادِهِمْ ضَرَبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ فِي غَيْرِهِمْ كَمَا ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِتَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (كَأَيِّنْ) بِمَعْنَى " كَمْ " الْخَبَرِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَثِيرٌ، وَفِيهَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ مَشْهُورَتَانِ " كَائِنٌ " بِوَزْنِ فَاعِلٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَ " كَأَيِّنْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ وَسُكُونِ النُّونِ - الَّتِي قَالُوا: إِنَّ أَصْلَهَا التَّنْوِينُ أُثْبِتَ لَهُ صُورَةٌ فِي الْخَطِّ كَمَا يُنْطَقُ بِهِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْخَاصَّةِ - وَبِهَا قَرَأَ الْبَاقُونَ. وَقَالُوا: إِنَّ

أَصْلَهَا " أَيِّ " الِاسْتِفْهَامِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ فَصَارَتْ كَلِمَةً مُسْتَقِلَّةً لَا مَعْنَى فِيهَا لِلتَّشْبِيهِ وَلَا لِلِاسْتِفْهَامِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>