للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَهُوَ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مُعَارِضًا لِمَشِيئَةِ اللهِ وَلَا مُزِيلًا لَهَا، بَلْ مَشِيئَتُهُ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللهِ وَمَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِهَا كَمَا قَالَ: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ [٧٦: ٣٠] وَ [٨١: ٢٩] وَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَشَاءَ لَنَا أَنْ نَعْمَلَ عِنْدَمَا يَتَرَجَّحُ فِي

عِلْمِنَا أَنَّ الْعَمَلَ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ، وَأَنْ نَتْرُكَ عِنْدَمَا يَتَرَجَّحُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ التَّرْكَ خَيْرٌ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ مَا هُوَ الْإِنْسَانُ.

وَإِنَّنَا نَرَى الْكِتَابَ الْعَزِيزَ يَذْكُرُ بَعْضَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَيَسْكُتُ عَنِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي ذَلِكَ - وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ - وَلَكِنَّهُ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَجْحَدُ شَيْئًا مِنْهَا جُحُودَهُ وَيُبَيِّنُ لَنَا خَطَأَهُ وَضَلَالَهُ كَمَا بَيَّنَ خَطَأَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا فِي مَوْضِعٍ وَبَيَّنَ خَطَأَ مَنْ يُنْكِرُ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَهُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْقُوَى، وَيَكْفُرُ لَهُ نِعْمَةَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ لَا سِيَّمَا فِي مَقَامِ الِاعْتِذَارِ عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي شُكْرِ هَذِهِ الْقُوَى بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ، كَمَا يُنْكِرُ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ كَوْنِهِ - تَعَالَى - هُوَ الْمُنْعِمَ بِهَذِهِ الْقُوَى الَّتِي يُجْلَبُ بِهَا الْخَيْرُ عِنْدَمَا تُبْطِرُهُ النِّعْمَةُ فَيَنْسُبُهَا لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ وَيَنْسَى ذِكْرَ رَبِّهِ وَشُكْرَهُ. وَقَدْ جَمَعَ - تَعَالَى - بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا [٤: ٧٨، ٧٩] وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوا، ثُمَّ لَمَّا عَلِمُوا بِأَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ضَعُفُوا وَأَنْكَرُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا احْتِجَاجًا لِأَنْفُسِهِمْ وَاعْتِذَارًا عَنْهَا، فَأَجَابَهُمْ - تَعَالَى - مُبَيِّنًا لَهُمُ الْحَقِيقَةَ الْأُولَى، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ اللهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْخَالِقُ لِلْقُوَى وَالْوَاضِعُ لِلسُّنَنِ وَالْمَقَادِيرِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ الْفَرْعَ الَّذِي اقْتَضَى الْمَقَامُ بَيَانَهُ مِنْ فُرُوعِ الْحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهَا وَوَاضِعُ السُّنَنِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يُوَصِّلُ بِهَا إِلَيْهَا وَالْخَالِقُ لِلْقُوَى الْكَاسِبَةِ لِأَسْبَابِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهَا لِيُشْكَرَ عَلَيْهَا وَأَنَّ السَّيِّئَةَ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ الْكَاسِبُ لَهَا وَالْمُنْحَرِفُ عَنْ سُنَنِ اللهِ وَشَرِيعَتِهِ فِي طَرِيقِ تَحْصِيلِهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ وَيَرُدَّهَا إِلَى التَّوْبَةِ، كَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ. الْأُولَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَالثَّانِيةُ قَوْلُهُ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ

إِلَى مَضَاجِعِهِمْ أَيْ لَمَا حَصَلَ الْقَتْلُ الثَّابِتُ فِي عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِبُرُوزِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِلَى مَوَاضِعِ الْقِتَالِ الَّتِي يُصْرَعُونَ فِيهَا. وَبُرُوزُهُمْ هَذَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ: فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مُحَالٌ وَلَا نَصْرٌ لِمَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ جَامِعَةٌ لِلْحَقَائِقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>