للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَتُكَذِّبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ، وَلِذَلِكَ نَسَبَهُمْ إِلَى الدَّعْوَى الْقَوْلِيَّةِ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمْ مَا قَالَ فِي ذَلِكَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (٢: ٣) فَإِنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ إِيمَانَهُمْ وَقَفَّى عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ مَا الْإِيمَانُ الَّذِي يَعْتَدُّ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَظْهَرُ لِمَنْ يَقْرَأُ لِيُحَاسِبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَيَزِنُ إِيمَانَهُ وَأَعْمَالَهُ بِمَا حَكَمَ بِهِ عَلَى إِيمَانِ مَنْ قَبْلَهُ وَأَعْمَالِهِمْ، لَا لِمَنْ يَقْرَؤُهُ عَلَى أَنَّهُ قِصَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ مَاتَ مَنْ يَحْكِي عَنْهُمْ، وَاسْتَثْنَى الْقَارِئُ نَفْسَهُ مِمَّنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ فِيهَا.

فَإِنْ كَانَ مَاتَ مَنْ كَانُوا سَبَبَ النُّزُولِ فَالْقُرْآنُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، يَنْطَبِقُ حُكْمُهُ وَيَحْكُمُ سُلْطَانُهُ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ (فَكُلٌّ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصْدُرُ فِي عَمَلِهِ عَنْ شَهَوَاتِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ إِيمَانُهُ عَنْ رُكُوبِ خَطِيئَاتِهِ، فَاعْتِقَادُهُ إِنَّمَا هُوَ خَيَالٌ، لَا يَعْلُو عَنْ لَفْظٍ فِي مَقَالٍ، وَدَعْوَى عِنْدَ جِدَالٍ، فَإِذَا رَكَنَ إِلَى هَذَا الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ خَادِعٌ لِنَفْسِهِ مُخَادِعٌ لِرَبِّهِ، يَظُنُّ أَنَّ عَلَّامَ الْغُيُوبِ لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْقُلُوبِ) .

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عُهِدَ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ، وَالْمَرَضُ هُوَ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْعُقُولِ فَيُضْعِفُ تَعَلُّقَهَا وَإِدْرَاكَهَا، وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ مِنْ أَعْرَاضِ هَذَا الْمَرَضِ، فَهُوَ ظُلْمَةٌ تَعْرِضُ لِلْعَقْلِ فَتَقِفُ بِشُعَاعِهِ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى مَا وَرَاءِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ. وَهَذَا النُّفُوذُ: هُوَ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ الَّذِي يَسُوقُ النَّفْسَ

إِلَى الْأَخْذِ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ عَبَّرَ الْقُرْآنُ عَنْ فَقْدِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (٧: ١٧٩) وَرُبَّمَا كَانَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعُقُولِ بِالْقُلُوبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْوُجْدَانِ الَّذِي هُوَ السَّائِقُ إِلَى الْأَعْمَالِ (يَظْهَرُ لَكَ ذَلِكَ بِمَا تَجِدُهُ مِنَ اضْطِرَابِ قَلْبِكَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْخَوْفِ أَوِ اشْتِدَادِ الْفَرَحِ، فَإِنَّكَ تُحِسُّ بِزِيَادَةِ ضَرَبَاتِهِ وَشِدَّةِ نَبَضَاتِهِ) فَصُورَةُ الِاعْتِقَادِ إِذَا تَنَاوَلَهَا الْعَقْلُ مِنْ طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَالتَّسْلِيمِ فَجَعَلَهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الدِّمَاغِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى الْقَلْبِ وَلَا تَأْثِيرٌ فِي الْوِجْدَانِ، وَاعْتِقَادٌ لَا يَصْحَبُهُ هَذَا السُّلْطَانُ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ هَذَا التَّأْثِيرُ، لَا يَعْتَدُّ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَلَا يَسْتَفِيدُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَمَنْ لَمْ يَطْرُقِ الْإِيمَانُ قَلَبَهُ بِقُوَّةِ الْبُرْهَانِ وَلَمْ يَحْلُ مَذَاقُهُ مِنْهُ فِي الْوُجْدَانِ، بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْمُصَرِّفَ لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، لَا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِلَّا إِذَا تَمَرَّنَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَنْ فَهْمٍ وَإِخْلَاصٍ، حَتَّى يَحْدُثَ لِقَلْبِهِ الْوِجْدَانُ الصَّالِحُ، فَأَهْلُ الْيَقِينِ يَبْعَثُهُمْ يَقِينُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَهْلُ التَّقْلِيدِ تُلْحِقُهُمْ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ بِأَهْلِ الْيَقِينِ فِي الِانْتِفَاعِ بِإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا الْفَرِيقُ الَّذِي تَحْكِي عَنْهُ الْآيَاتُ وَتَصِفُهُ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ، قَدْ فَقَدَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَلْبِ إِلَّا بِهِمَا، فَمَنْ فَقَدَهُمَا مَرِضَ وَلَا يَلْبَثُ مَرَضُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>