للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَوْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِهِ ظَاهِرًا لَوَجَبَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ رَئِيسِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَحِينَئِذٍ فَضَحَهُمُ اللهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ ظُهُورِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ [٩: ٨٤] فَحَاصِلُ مَعْنَى عِبَارَةِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّهُ - تَعَالَى - كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْآيَةِ بَلْ صَرَّحَ بِمَا يُومِئُ إِلَيْهِ تَأْدِيبًا لَهُمْ عَسَى أَنْ يَتُوبَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْكُفْرُ فِي قَلْبِهِ، وَمَنْعًا لِلنَّاسِ مِنَ الْهُجُومِ عَلَى التَّكْفِيرِ. فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُتَفَقِّهَةُ زَمَانِنَا الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ تَقَالِيدِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ وَالتَّقْوَى فِي عَمَلِهِ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا، أَيْ أَنَّ الْكَذِبَ دَأْبُهُمْ وَعَادَتُهُمْ يَصْدُرُ عَنْهُمْ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِيَسْتُرُوا بِذَلِكَ مَا يُضْمِرُونَ، وَيُؤَيِّدُوا بِهِ مَا يُظْهِرُونَ، وَهَلْ يَكُونُ نِفَاقٌ بِغَيْرِ كَذِبٍ؟ وَفِي تَقَيُّدِ الْقَوْلِ بِالْأَفْوَاهِ تَوْضِيحٌ لِنِفَاقِهِمْ بِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِهِمْ لِبَاطِنِهِمْ وَفِي التَّنْزِيلِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ هَذِهِ قَالَ: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهِمْ، فَهُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ حِينِ مِنْ مُخَبَّآتِ سَرَائِرِهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَتَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يُعَاقِبُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى نَافَقُوا وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ وَالثَّانِي أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، وَقَوْلُهُ قَبْلَهُ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا قَدْ تَمَّ بِهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَقِيلَ لَهُمْ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْوَاوِ مَا حَاصِلُهُ: وَقَدْ خَلَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْوَاوِ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ

الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا تَأْتِي لِوَصْلِ كَلَامٍ بِكَلَامٍ آخَرَ مُبَايِنٍ لِلْأَوَّلِ تَمَامَ الْمُبَايَنَةِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ، وَمُرْتَبِطٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ السِّيَاقِ وَالْغَرَضِ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا فُصِلَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الْفَصْلِ الْبَحْتِ وَحْشَةٌ عَلَى السَّمْعِ وَإِيهَامٌ لِلذِّهْنِ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى، فَيَجِيءُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَاوِ لِيَسْتَمِرَّ الْأُنْسُ بِالْكَلَامِ فِي الْغَرَضِ الْوَاحِدِ وَيَظَلَّ الذِّهْنُ مُنْتَظِرًا لِغَايَةِ الْفَائِدَةِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بِالْوَاوِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِ قَدْ تَمَّ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ مِثْلُ مَا يُرَادُ مِمَّا قَبْلَهُ يَقُولُ: هَذَا جُزْءٌ مِنَ الْكَلَامِ يُثْبِتُ غَرَضِي وَيُبَيِّنُ مُرَادِي وَثَمَّ جُزْءٌ آخَرُ مِنْهُ وَهُوَ كَذَا. وَهَذَا الشَّرْحُ

<<  <  ج: ص:  >  >>