للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللهُ لَنَا - وَفِي لَفْظٍ - قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا أَنَّنَا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللهُ - تَعَالَى - مَا مَعْنَاهُ: " أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا جَابِرُ! مَالِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا وَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَى أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ - تَعَالَى -: قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ لَا يُرْجَعُونَ. قَالَ: أَيْ رَبِّي فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالُوا: وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِجَوَازِ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَنُزُولِ الْآيَةِ فِيهِمَا مَعًا. وَأَقُولُ: إِنِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، فَإِذَا صَحَّ الْخَبَرَانِ فَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ وَقَائِعِ غَزْوَةِ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا هَذَا السِّيَاقُ كُلُّهُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ لِقَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ أَوْ يَرْتَابُونَ فِيهِ فَيُؤْثِرُونَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا أَنَّ مَنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ قَدْ فَقَدُوا الْحَيَاةَ وَصَارُوا عَدَمًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ قُتِّلُوا بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فِي عَالَمٍ غَيْرِ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لِلشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلِكَرَامَتِهِ وَشَرَفِهِ أَضَافَهُ الرَّبُّ - تَعَالَى - إِلَيْهِ فَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ شَرَفٍ وَكَرَامَةٍ لَا مَكَانٍ وَمَسَافَةٍ. وَقِيلَ عِنْدِيَّةُ عِلْمٍ وَحُكْمٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَضِيرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ قَتْلُهُمْ، وَلَيْسَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ دُونَ مَا كَانُوا فِيهِ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى الْقِتَالِ سَبَبٌ مُطَّرِدٌ لِلْقَتْلِ لَا يَتَخَلَّفُ كَمَا يُوهِمُ كَلَامُ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُثَبِّطًا لِلْمُؤْمِنِ عَنِ الْجِهَادِ عِنْدَ وُجُوبِهِ بِمِثْلِ مُهَاجَمَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أُحُدٍ، أَوْ بِفِتْنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ، فَكَيْفَ وَالْخُرُوجُ إِلَى الْقِتَالِ هُوَ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ فِي الْغَالِبِ ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي لَا تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهَا يَطْمَعُ غَيْرُهَا فِيهَا، فَإِذَا هَاجَمَهَا الْأَعْدَاءُ ظَفِرُوا بِهَا وَنَالُوا مَا يُرِيدُونَ مِنْهَا.

وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ [٢: ١٥٤] وَأَنَّ الْمُخْتَارَ فِيهَا أَنَّهَا حَيَاةٌ غَيْبِيَّةٌ لَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهَا وَلَا نَزِيدُ فِيهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ خَبَرُ الْوَحْيِ شَيْئًا فَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ بَلْ أَحْيَاءٌ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ فِي أَحْيَاءِ

الْآخِرَةِ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>