للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّةً حَكِيمَةً مِنْ سُنَنِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْلُغُ الْخَيْرَ بِعَمَلِهِ الْحَسَنِ، وَيَقَعُ فِي الضَّيْرِ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَشْمِيرِهِ فِي عَمَلِ السَّيِّئَاتِ، وَالْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ عِنَايَةً مِنَ اللهِ بِهِمْ. وَإِنَّمَا هُوَ جَرْيٌ عَلَى سُنَّتِهِ فِي الْخَلْقِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِهِ. وَمِنْ مُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِلَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِمْلَاءُ لِلْكَافِرِ عِلَّةً لِغُرُورِهِ، وَسَبَبًا لِاسْتِرْسَالِهِ فِي فُجُورِهِ، فَيُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي الْإِثْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَذَابُ الْمُهِينُ.

هَذَا مَا عِنْدِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ " تَحْسَبَنَّ " بِالتَّاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَحْسَبُ، وَفَتْحَ سِينَ " يَحْسَبُ " فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَكَسَرَهَا الْبَاقُونَ. وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَعَمَلِهِ لِيَبْلُغَ مَدَاهُ فِيهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَى لِفَرَسِهِ. إِذَا أَرْخَى لَهُ الطِّوَلَ لِيَرْعَى كَيْفَ شَاءَ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ الْخَيْرَ لَيْسَ فِي الْإِمْهَالِ، وَإِرْخَاءِ الْعِنَانَ لِلْإِنْسَانِ لِيَعْمَلَ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ مَا يَشَاءُ ; فَإِنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الْبَشَرِ بِاخْتِيَارِهِمْ مَا يَشَاءُونَ فِي دَائِرَةِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَيْرُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْإِمْلَاءِ وَطُولِ الْأَجَلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ، إِذَا كَانَ يَزْدَادُ فِيهِ عَمَلًا صَالِحًا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي نَفْسِهِ بِارْتِقَائِهَا فِي الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَالصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَيَنْفَعُ بِهِ النَّاسَ فِي تَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَحْسِينِ مَعِيشَتِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَمْثَالِهِمْ لَا يَزْدَادُونَ بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ إِلَّا إِثْمًا يَضُرُّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالتَّمَادِي فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الْفِسْقِ، وَتَأْيِيدِ سُلْطَانِ الشَّرِّ فِي الْخَلْقِ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَزْدَادُوا إِثْمًا هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَالصَّيْرُورَةِ، أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ بِحَسَبِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ بِمُقْتَضَى كُفْرِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ يُقَاوِمُونَ أَهْلَ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى شَاكِلَتِهِ قَوِيَتْ بِالْعَمَلِ وَالْإِثْمِ دَاعِيَةُ الْإِثْمِ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ يَمُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا مِنْ خَلِيقَةٍ، وَلَا

شَاكِلَةٍ فِي الْإِنْسَانِ إِلَّا وَيَزِيدُهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا قُوَّةً، وَرُسُوخًا فِي نَفْسِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ - تَعَالَى - فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ.

وَقَدْ يَرِدُ هُنَا إِشْكَالَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مِنَ الْكَافِرِينَ مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ، فَإِذَا طَالَ عُمُرُهُ ازْدَادَ مِنْهُ، وَهَذَا شَيْءٌ ثَابِتٌ بِالنَّظَرِ وَالِاخْتِيَارِ، وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْكُمُ بِالضَّلَالِ عَلَى الْكَثِيرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>