للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بَلْ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُ، فَإِنَّهُ مَاتَ بِالسُّمِّ الَّذِي وَضَعَتْهُ لَهُ الْيَهُودِيَّةُ فِي الشَّاةِ بِخَيْبَرَ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: يَا عَائِشَةُ، مَا زِلْتُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي كُلَّ عَامٍ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَبَّهَنَا بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّعْبِيرِ إِلَى أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِذَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْمُتَقَدِّمِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، وَيُطَبِّقُهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ، فَيَسْتَحْسِنُ مِنْهُ مَا اسْتَحْسَنَتْ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا اسْتَهْجَنَتْ، وَيُسَجِّلُ عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ سَلَفِهِ إِسَاءَتَهُ، وَيَنْفِرُ

مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُعَدُّ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - مِثْلَهُ، وَشَرِيكًا لَهُ فِي إِثْمِهِ وَمُسْتَحِقًّا لِمِثْلِ عُقُوبَتِهِ، فَعَلَيْكُمْ بِاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِإِزَالَةِ الْمُنْكَرَاتِ الْفَاشِيَةِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ بَذْلِ الْجُهْدِ، وَإِعْمَالِ الرَّوِيَّةِ وَالْفِكْرِ، وَمَا عَلَيْنَا الْآنَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ إِلَّا الْحِيلَةُ فِي بَذْلِ النُّصْحِ، وَالْإِرْشَادِ، بِأَيِّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِهِ، وَكُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِهِ.

وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ: " وَيَقُولُ ". قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الذَّوْقُ عِبَارَةٌ عَنِ الشُّعُورِ بِالْأَلَمِ، أَوْ ضِدِّهِ، فَمَعْنَى ذُوقُوا: تَأَلَّمُوا. أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْقَوْلِ فَلَا نَبْحَثُ فِيهَا، أَوْ إِنَّمَا نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُوصِلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَيْهِمْ.

أَقُولُ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، وَبِمِثْلِهِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى اقْتِبَاسِ النَّبِيِّ مِنْ كُتُبِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ - عَلَيْهِ رِضْوَانُ اللهِ - مَقْتُولًا: " ذُقْ عُقُقُ " أَيْ ذُقْ عَاقِبَةَ إِسْلَامِكَ أَيُّهَا الْعَاقُّ لِدِينِ آبَائِكَ، وَلِمَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِكَ فَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. نَعَمْ: إِنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ لِمَعْرِفَةِ طَعْمِ الطَّعَامِ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِيهِ فَاسْتَعْمَلُوهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ كَقَوْلِهِمْ: " ذُقْتَ الْقَوْسَ " إِذَا جَذَبْتَ وَتَرَهَا لِتَنْظُرَ مَا شِدَّتُهَا. وَقَوْلُهُمْ: ذُقْتَ الرُّمْحَ إِذَا غَمَزْتَهَا قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

يَهْزُزْنَ لِلْمَشْيِ أَوْصَالًا مُنَعَّمَةً ... هَزَّ الشَّمَالِ ضُحًى عِيدَانَ يَبْرِينَا

أَوْ كَاهْتِزَازِ رُدَيْنِيٍّ تَذَاوَقُهُ ... أَيْدِي التِّجَارِ فَزَادُوا مَتْنَهُ لَيِنَا

كَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَفِي الْأَسَاسِ " أَيْدِي الْكُمَاةِ " بَدَلَ " أَيْدِي التِّجَارِ "، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الذَّوْقُ يَكُونُ بِالْفَمِ، وَبِغَيْرِ الْفَمِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهُ فِي الْمَعَانِي، قَالَ ابْنُ طُفَيْلٍ:

فَذُوقُوا كَمَا ذُقْنَا غَدَاةَ مُحَجَّرٍ ... مِنَ الْغَيْظِ فِي أَكْبَادِنَا وَالتَّحَوُّبِ

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْرِفَةِ جَيِّدِ الشِّعْرِ، وَأَحَاسِنِ الْكَلَامِ. وَعَذَابَ الْحَرِيقِ مَعْنَاهُ: عَذَابٌ هُوَ الْحَرِيقُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>