للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَذِكْرُ الْفَوْزِ مُطْلَقًا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِهِ شَيْءٌ يُفِيدُ أَنَّهُ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَطْلُبُهُ الْمَرْءُ مِنْ سَلَامَةٍ مِنْ مَكْرُوهٍ، وَفَوْزٍ بِمَحْبُوبٍ، وَنَاهِيكَ بِالسَّلَامَةِ مِنَ النَّارِ، وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي دَارِ الْقَرَارِ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ مُوجَزَةٍ إِيجَازًا مُعْجِزًا فَأَعْلَمَ أَنَّ هُنَالِكَ جَنَّةً وَنَارًا، وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُلْقَى فِي تِلْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ، وَأَبَانَ عَظِيمَ هَوْلِ النَّارِ، وَشِدَّتِهَا بِالتَّعْبِيرِ عَنِ النَّجَاةِ عَنْهَا بِالزَّحْزَحَةِ كَأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى السُّقُوطِ فِيهَا، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الزَّحْزَحَةِ عَنْهَا فَوْزٌ كَبِيرٌ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ

إِلَى أَنَّ أَعْمَالَ النَّاسِ سَائِقَةٌ لَهُمْ إِلَى النَّارِ ; لِأَنَّهَا حَيَوَانِيَّةٌ فِي الْغَالِبِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ زُحْزِحَ عَمَّا كَانَ صَائِرًا إِلَيْهِ مِنَ السُّقُوطِ فِي النَّارِ، أَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُزَحْزَحُونَ فَهُمُ الَّذِينَ غَلَبَتْ فِي نُفُوسِهِمُ الصِّفَاتُ الرُّوحِيَّةُ عَلَى الصِّفَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَأَخْلَصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَفِي أَعْمَالِهِمْ، وَجَاهَدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي نُفُوسِهِمْ شَائِبَةٌ مِنْ إِشْرَاكِ غَيْرِ اللهِ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. أَفَادَ هَذَا الْإِيجَازُ كُلَّ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَلَمْ يَحْتَجْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مِثْلِ مَا ذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ وَصْفِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ هُنَالِكَ مِنَ الْإِطْنَابِ، وَالتَّعْرِيفِ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَعَبَّرَ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ زُحْزِحَ لِلتَّرْتِيبِ، وَبَيَانِ السَّبَبِ. كَذَا كَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَتَبْتُ بِجَانِبِهِ " وَفِيهِ نَظَرٌ " وَلَعَلِّي كَنْتُ أُرِيدُ مُرَاجَعَتَهُ فِيهِ فَنَسِيتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْفَاءَ عَاطِفَةٌ، وَفِيهَا مَعْنَى التَّرْتِيبِ دُونَ السَّبَبِ، وَمَا بَعْدَهَا تَفْصِيلٌ لِتَوْفِيَةِ الْأُجُورِ.

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ الدُّنْيَا صِفَةٌ لِلْحَيَاةِ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْأَدْنَى، وَالْمَتَاعُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ أَيْ يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَنًا مُمْتَدًّا امْتِدَادًا طَوِيلًا، أَوْ قَصِيرًا لِأَنَّهُ مِنَ الْمُتُوعِ، وَهُوَ الِامْتِدَادُ، يُقَالُ مَتَعَ النَّهَارُ وَمَتَعَ النَّبَاتُ: إِذَا ارْتَفَعَ وَامْتَدَّ، وَيُقَالُ لِلْآنِيَةِ: مَتَاعٌ، قَالَ - تَعَالَى -: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ [١٣: ١٧] وَقَالَ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ [١٢: ٦٥] وَهُوَ الْأَوْعِيَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمِيرَةِ، وَالطَّعَامِ، وَالْغُرُورُ: الْخِدَاعُ، وَأَصْلُهُ إِصَابَةُ الْغِرَّةِ أَيِ الْغَفْلَةِ مِمَّنْ تَخْدَعُهُ وَتَغُشُّهُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَتَاعِ الَّذِي يُدَلَّسُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَامِ، وَيُغَرُّ حَتَّى يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ فَسَادُهُ وَرَدَاءَتُهُ.

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْحَيَاةُ الدُّنْيَا هِيَ السُّفْلَى، أَوِ الْقُرْبَى، وَالْمُرَادُ مِنْهَا حَيَاتُنَا هَذِهِ، أَيْ مَعِيشَتُنَا الْحَاضِرَةُ الَّتِي نَتَمَتَّعُ فِيهَا بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، أَوِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْجَاهِ، وَالْمَنْصِبِ، وَالسِّيَادَةِ، هَذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ أَقْرَبُ الْحَيَاتَيْنِ، وَأَدْنَاهُمَا، وَأَحَطُّهُمَا، وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَتَاعُ الْغُرُورِ ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا دَائِمًا مَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ لَهَا تَشْغَلُهُ كُلَّ حِينٍ بِجَلْبِ لَذَّاتِهَا وَدَفْعِ آلَامِهَا، فَهُوَ يَتْعَبُ لِمَا لَا يَسْتَحِقُّ التَّعَبَ، وَيَشْقَى لِتَوَهُّمِ السَّعَادَةِ، وَيَتْعَبُ نَقْدًا لِيَسْتَرِيحَ نَسِيئَةً، وَالْعِبَارَةُ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فَهِيَ تَشْمَلُ حَيَاةَ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ يَصْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ فِي نَفْعِ النَّاسِ حُبًّا بِالْخَيْرِ، وَتَقَرُّبًا إِلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -

<<  <  ج: ص:  >  >>