للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا الصُّنْعِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا حَتَّى إِنَّهُ لَا حَدَّ يُعْرَفُ لِفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وُجِدَ لِيَعِيشَ قَلِيلًا، ثُمَّ يَذْهَبَ سُدًى، وَيَتَلَاشَى فَيَكُونَ بَاطِلًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِاسْتِعْدَادِهِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ قَدْ خُلِقَ لِيَحْيَا حَيَاةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ الَّتِي يَرَى كُلُّ عَامِلٍ فِيهَا جَزَاءَ عَمَلِهِ ; وَلِهَذَا وَصَلَ الثَّنَاءَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَمَعْنَاهُ: جَنِّبْنَا السَّيِّئَاتِ، وَوَفِّقْنَا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ وِقَايَةً لَنَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَهَذِهِ هِيَ نَتِيجَةُ فِكْرِ الْمُؤْمِنِ.

قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ يَصِلُوا بِالْفِكْرِ مَعَ الذِّكْرِ إِلَى بَقَاءِ الْعَالَمِ، وَاسْتِمْرَارِهِ ; لِأَنَّ نِظَامَهُ الْبَدِيعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْحَكِيمُ بَاطِلًا (أَيْ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ) وَبَعْدَ أَنْ يَدْعُوا رَبَّهُمْ أَنْ يَقِيَهُمْ دُخُولَ النَّارِ فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ قَائِلِينَ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أَيْ إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى هَيْبَةِ ذَلِكَ الرَّبِّ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الْأَكْوَانَ الْمَمْلُوءَةَ بِالْأَسْرَارِ، وَالْحِكَمِ، وَالدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ عَادَاهُ فَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى لَهُ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، فَيُقِرُّونَ بِأَنَّ مَنْ أَدْخَلَهُ نَارَهُ فَقَدْ أَخْزَاهُ، أَيْ أَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وَصَفَ مَنْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِالظَّالِمِينَ تَشْنِيعًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَبَيَانًا لِعِلَّةِ دُخُولِهِمْ فِيهَا، وَهُوَ جَوْرُهُمْ، وَمَيْلُهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ. فَالظَّالِمُ هُنَا هُوَ الَّذِي يَتَنَكَّبُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لَا الْكَافِرُ خَاصَّةً كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ وُلُوعُ النَّاسِ بِإِخْرَاجِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ كُلِّ وَعِيدٍ يُذْكَرُ فِي كِتَابِهِمْ، وَحَمْلُهُ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ فَعَلَ السَّابِقُونَ، وَاتَّبَعَ سَنَنَهُمُ اللَّاحِقُونَ، فَكُلُّ ظَالِمٍ يُؤْخَذُ بِظُلْمِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِهِ، وَلَا يَجِدُ لَهُ نَصِيرًا يَحْمِيهِ مِنْ أَثَرِ ذَنْبِهِ.

قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ التَّعْبِيرِ عَمَّا أَثْمَرَهُ الْفِكْرُ وَالذِّكْرُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَخَشْيَتِهِ وَدُعَائِهِ عَبَّرُوا عَمَّا أَفَادَهُمُ السَّمْعُ مِنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، وَمَا

يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا الْمُنَادِي لِلْإِيمَانِ هُوَ الرَّسُولُ، وَذَكَرَهُ بِوَصْفِ الْمُنَادِي تَفْخِيمًا لِشَأْنِ هَذَا النِّدَاءِ، وَذَكَرَ اسْتِجَابَتَهُمْ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ بَعْدَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْوُصُولِ مِنْهُمَا إِلَى تِلْكَ النَّتِيجَةِ الْحَمِيدَةِ لَمْ يَتَلَبَّثُوا بِالْإِيمَانِ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، كَمَا تَلَبَّثَ قَوْمٌ، وَاسْتَكْبَرَ آخَرُونَ بَلْ بَادَرُوا، وَسَارَعُوا إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ مَعَ زِيَادَةٍ صَالِحَةٍ تَزِيدُهُمْ مَعْرِفَةً بِاللهِ - تَعَالَى - وَبَصِيرَةً فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ اللَّتَيْنِ دَلَّهُمُ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِمَا دَلَالَةً مُجْمَلَةً مُبْهَمَةً، وَالْأَنْبِيَاءُ يَزِيدُونَهَا بِمَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَيْهِمْ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ بَيَانَ أَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ أُولُو أَلْبَابٍ هَذَا شَأْنُهُمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُنَادَى نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً.

أَقُولُ: وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَلْبَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَهُ عَلَى هَذَا هُمُ السَّابِقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ لِحُكْمِهِمْ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ الْهِجْرَةِ مَا يُرَجِّحُ هَذَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>