للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَى مَا يَلْحَقُكُمْ مِنَ الْأَذَى، وَصَابِرُوا الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَكُمْ لِيَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، وَيَخْذُلُونَ الْحَقَّ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، وَارْبُطُوا الْخَيْلَ كَمَا يَرْبُطُونَهَا اسْتِعْدَادًا لِلْجِهَادِ.

أَقُولُ: فَالْمُصَابَرَةُ، وَالْمُرَابَطَةُ، وَهِيَ الرِّبَاطُ بِمَعْنَى مُبَارَاةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُغَالَبَتِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَفِي رَبْطِ الْخَيْلِ كَمَا قَالَ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [٨: ٦٠] عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُقَاتِلُونَنَا بِهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُبَارَاتُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِعَمَلِ الْبَنَادِقِ، وَالْمَدَافِعِ، وَالسُّفُنِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ، وَالْعُدَدِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَرَاعَةِ فِي الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَالطَّبِيعِيَّةِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ الْعَسْكَرِيِّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا، وَقَدْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْمُرَابَطَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي ثُغُورِ

الْبِلَادِ، وَهِيَ مَدَاخِلُهَا عَلَى حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْهَا إِذَا هَاجَمَهَا الْأَعْدَاءُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيَقُومُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِرَبْطِ خُيُولِهِمْ، وَخِدْمَتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى: يُكْثِرُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى النَّاسَ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهَا بَتَّةً، صَارَ التَّقِيُّ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ الْأَهْبَلُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَصْلَحَتَهُ، وَلَا مَصْلَحَةَ النَّاسِ. وَلَا شَيْءَ أَشْأَمَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ فَهْمِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى.

التَّقْوَى: أَنْ تَقِيَ نَفْسَكَ مِنَ اللهِ، أَيْ مِنْ غَضَبِهِ، وَسُخْطِهِ، وَعُقُوبَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا إِلَّا مَنْ فَهِمَ كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى - وَعَرَفَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ مُطَالِبًا نَفْسَهُ بِالِاهْتِدَاءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَمَنْ صَبَرَ، وَصَابَرَ، وَرَابَطَ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَأَهْلِهِ، وَنَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَاتَّقَى رَبَّهُ فِي سَائِرِ شُئُونِهِ فَقَدْ أَعَدَّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -.

وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَلَاحَ هُوَ الْفَوْزُ، وَالظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ خَاصًّا بِالدُّنْيَا كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [٢٠: ٦٤] وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا [١٨: ٢٠] وَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ أَكْثَرَ وَعْدِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.

وَإِرَادَةُ الْفَلَاحِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ الصَّبْرَ، وَمُصَابَرَةَ الْأَعْدَاءِ، وَالْمُرَابَطَةَ، وَالتَّقْوَى كُلُّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّهَا مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَقَصْدِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ - الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ - مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ دَاخِلَةٌ فِي مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِهَا، فَعِلْمُهُ إذًا هُوَ سَبَبُ فَلَاحِهِ.

فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُنِيلَنَا مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ، وَأَقْدَرَنَا عَلَى أَسْبَابِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>