للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهُوَ يَتَسَلْسَلُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [٤: ٣٦] الْآيَةَ ; وَلِذَلِكَ افْتَتَحَهَا بِالتَّذْكِيرِ بِالْقَرَابَةِ، وَالْأُخُوَّةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْأُمَّةِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ طَفِقَ يُبَيِّنُ حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ مِنَ النَّاسِ كَالْيَتَامَى، وَالنِّسَاءِ، وَالسُّفَهَاءِ، وَيَأْمُرُ بِالْتِزَامِهَا، فَقَالَ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَالْيَتِيمُ لُغَةً: مَنْ مَاتَ أَبُوهُ مُطْلَقًا، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَمَتَى بَلَغَ زَالَ يُتْمُهُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ سَفِيهٌ، فَإِنَّهُ يَبْقَى حُكْمُ الْيَتِيمِ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ الْحَجْرُ. وَمَعْنَى إِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ هُوَ جَعْلُهَا لَهُمْ خَاصَّةً، وَعَدَمُ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْبَاطِلِ، أَيْ أَنْفِقُوا عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يَزُولَ يُتْمُهُمْ بِالرُّشْدِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى فَعِنْدَ ذَلِكَ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ مَا بَقِيَ لَهُمْ بَعْدَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ فِي زَمَنِ الْيُتْمِ وَالْقُصُورِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي إِعْطَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ فِي حَالَتَيِ الْيُتْمِ، وَالرُّشْدِ، كُلُّ حَالَةٍ بِحَسَبِهَا، وَتِلْكَ خَاصَّةٌ بِحَالِ الرُّشْدِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ تَجَوُّزٌ كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ نَفَقَةَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِيتَاءُ مَالٍ لِلْيَتِيمِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَالِ الْيَتِيمِ وَجَعْلُهُ خَاصَّةً، وَعَدَمُ هَضْمِ شَيْءٍ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْيَتِيمَ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ الْمُرَادُ بِالْخَبِيثِ: الْحَرَامُ، وَبِالطَّيِّبِ: الْحَلَالُ، أَيْ لَا تَتَمَتَّعُوا بِمَالِ الْيَتِيمِ فِي الْمَوَاضِعِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي مِنْ شَأْنِكُمْ أَنْ تَتَمَتَّعُوا فِيهَا بِأَمْوَالِكُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ التَّمَتُّعُ بِمَالِ نَفْسِهِ فِي الطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ،

فَإِذَا عَرَضَ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ الَّذِي هُوَ قَيِّمٌ وَوَصِيٌّ عَلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَمْتَعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَقَدْ جَعَلَ مَالَ الْيَتِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَدَلًا مِنْ مَالِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَعْنَى التَّبَدُّلِ وَالِاسْتِبْدَالِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ أَيْ تَأْكُلُوهَا مَضْمُومَةً إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْوَلِيِّ مَالٌ يَضُمُّ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَكْلَهُ مُفْرَدًا غَيْرَ مَضْمُومٍ إِلَى مَالِ الْوَلِيِّ بِالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَقِيلَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ جَوَازُ أَكْلِ الْوَصِيِّ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ.

أَقُولُ: وَمُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ بِنَفْيِ التَّجَوُّزِ مِنَ الْآيَةِ يَعُمُّ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ بِاسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَمْوَالِ سَالِمَةً لَهُمْ، وَعَدَمِ اغْتِيَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِيتَائِهِمْ إِيَّاهَا هُوَ تَسْلِيمُهُمْ إِيَّاهَا بَعْدَ الرُّشْدِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظَ الْيَتَامَى بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ - كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ وَكُتُبِ الْأُصُولِ، وَهُوَ مَا سَيَأْتِي حُكْمُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى دَسِّهِ فِي هَذِهِ - وَقِيلَ: أَكْلُ أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى هُوَ خَلْطُهَا بِهَا، وَتَقَدَّمَ حُكْمُ مُخَالَطَتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ آيَةَ ٢٢٠ مِنْهَا فِي ص٢٧١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>