للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عِنْدَهُ احْتِمَالَاتٍ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ تُشَكِّكُهُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ وَعِيدِ السَّارِقِ، كَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَالْجِيرَانِ الصَّالِحِينَ، وَكَاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَكَالْمُكَفِّرَاتِ. فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ يَسْرِقُهُ، وَتَذَكَّرَ الْوَعِيدَ عَلَى السَّرِقَةِ يَنْتَصِبُ فِي ذِهْنِهِ مِيزَانُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ الْعَاجِلِ بِمَا يَسْرِقُهُ، وَالْعِقَابِ الْآجِلِ عَلَى هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الشَّكُّ فِي الْعِقَابِ رَجَحَتْ كِفَّةُ دَاعِيَةِ السَّرِقَةِ ; لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَسْرُوقِ يَقِينِيٌّ، وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ نَفْعَهُ لَهُ وَرُجْحَانَهُ عَلَى مُقَابِلِهِ إِنْ خَطَرَ فِي بَالِهِ الْمُقَابِلُ، فَعَلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا مَعَ التَّلَبُّسِ بِالْجَهْلِ، وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَهُوَ لَا يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ إِلَّا جَهْلًا بِحَقِيقَةِ الْوَعِيدِ، أَوْ مُتَأَوِّلًا لَهُ يُمَثِّلُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ انْتِظَارِ الشَّفَاعَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ، أَوْ مَغْلُوبًا بِشَهْوَةٍ، أَوْ بِغَضَبٍ، فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ عَنْ قَرِيبٍ فَتَابَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً حَتْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّمَنِ الْقَرِيبِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ هُوَ أَنْ يَتُوبَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَالْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ. وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَهُوَ مُدْرِكٌ يَعْقِلُ، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ: أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ.

ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ: إِنَّ مَنْ كَانَ قَوِيَّ الْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا تَقَعُ الْمَعْصِيَةُ مِنْهُ إِلَّا عَنْ بَادِرَةِ غَضَبٍ، أَوْ شَهْوَةٍ، أَوْ جَهْلٍ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ، فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ عَمَلُ السُّوءِ إِلَّا هَفْوَةً بَعْدَ هَفْوَةٍ، وَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ السُّوءَ مُفْرَدًا، وَقَالَ فِيمَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ: يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ بِالْجَمْعِ، فَأَشْعَرَنَا أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ حَتْمًا مِمَّنْ تَقَعُ الذُّنُوبُ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا، وَيُلِمُّ وَاحِدُهُمْ بِهَا إِلْمَامًا، وَلَكِنَّهُ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدْ يَطُوفُ بِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ طَائِفٌ آخَرُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَيَعُودُ ثَانِيَةً إِلَى الْعِصْيَانِ، وَيُتْبِعُهُ التَّوْبَةَ وَالْإِحْسَانَ فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْخَطِيئَةُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ قَرِيبٍ بِالْقُرْبِ مِنْ زَمَنِ الذَّنْبِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمُذْنِبُ التَّائِبُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ عَارِفٌ بِتَحْرِيمِ الذَّنْبِ وَلَكِنْ تُلِمُّ بِهِ تِلْكَ

الْجَهَالَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الرُّعُونَةَ فِي الْإِرَادَةِ، فَيَقَعُ فِي الذَّنْبِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ عِلْمُهُ فَيُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَتُوبُ. وَرَجُلٌ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنَّهُ عَلَى جَهْلِهِ بِبَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ لَيْسَ رَاضِيًا بِجَهْلِهِ، وَلَا مُهْمِلًا لِأَمْرِ دِينِهِ، بَلْ هُوَ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ وَيَتَعَلَّمُ فَلَا يَطُولُ عَلَيْهِ الْأَمَدُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ أَلَمَّ بِهِ مُحَرَّمٌ فَيَتُوبُ مِنْهُ حَالًا. فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ. فَالْقُرْبُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ زَمَنًا طَوِيلًا لِجَهْلِهِ بِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ، ثُمَّ عَلِمَ فَتَابَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى -

<<  <  ج: ص:  >  >>