للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شِئُونَ بَعْضٍ، وَيُعِينَهُ عَلَى مَا تَحْسُنُ بِهِ حَالُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَظِيفَةِ الْحَكَمَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ لَا يَحْكُمَانِ إِلَّا بِمَا وُكِّلَا بِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمَا حَاكِمَانِ (وَذَكَرَ مَذْهَبَ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاخْتِصَارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا آنِفًا) ، وَقَوْلُهُ: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ أَلَّا يَدَّخِرَا وُسْعًا فِي الْإِصْلَاحِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ صَحَّتْ إِرَادَتُهُمَا فَالتَّوْفِيقُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْعِنَايَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِحْكَامِ نِظَامِ الْبُيُوتِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَانْظُرُوا كَيْفَ لَمْ يَذْكُرْ مُقَابِلَ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ التَّفْرِيقُ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ، لَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى لَا يُذَكِّرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ، وَلِيُشْعِرَ النُّفُوسَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا التَّحْكِيمَ وَاجِبٌ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَاشْتَغَلُوا بِالْخِلَافِ فِيهِ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنَايَتَنَا بِالدِّينِ صَارَتْ مَحْصُورَةً فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ، وَتَعَصُّبِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، مَعَ عَدَمِ الْعِنَايَةِ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَهَا هُمْ أُولَاءِ قَدْ أَهْمَلُوا هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْجَلِيلَةَ لَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَالْبُيُوتُ يَدِبُّ فِيهَا الْفَسَادُ، فَيَفْتِكُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَيَسْرِي مِنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ.

إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، أَيْ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، عَلِيمًا، بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمْ، خَبِيرًا بِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبِأَسْبَابِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَإِنِّي لَأَكَادُ أُبْصِرُ الْآيَةَ الْحَكِيمَةَ تُومِئُ بِالِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخِلَافِ يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيُظَنُّ أَنَّهُ مِمَّا يُتَعَذَّرُ تَلَافِيهِ، وَهُوَ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسُ الْأَمْرِ نَاشِئٌ عَنْ سُوءِ التَّفَاهُمِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، لَا عَنْ تَبَايُنٍ فِي الطِّبَاعِ، أَوْ عَدَاوَةٍ رَاسِخَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْهُلُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الْخَبِيرَيْنِ بِدَخَائِلِ الزَّوْجَيْنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْهُمَا أَنْ يُمَحِّصَا مَا عَلَقَ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي قُلُوبِهِمَا، مَهْمَا حَسُنَتِ النِّيَّةُ وَصَحَّتِ الْإِرَادَةُ.

إِنَّ الزَّوْجِيَّةَ أَقْوَى رَابِطَةٍ تَرْبُطُ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَهِيَ الصِّلَةُ الَّتِي بِهَا يَشْعُرُ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّهُ شَرِيكُ الْآخَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَادِّيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ،

حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَاخَذُ بِالْآخَرِ عَلَى دَقَائِقِ خَطِرَاتِ الْحُبِّ، وَخَفَايَا خَلَجَاتِ الْقَلْبِ، يَسْتَشِفُّهَا مِنْ وَرَاءِ الْحُجُبِ، أَوْ تُوحِيهَا إِلَيْهِ حَرَكَاتُ الْأَجْفَانِ، أَوْ يَسْتَنْبِطُهَا مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ، إِذَا لَمْ تُصَرِّحْ بِهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ، فَهُمَا يَتَغَايَرَانِ فِي أَخْفَى مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيَكْتَفِيَانِ بِشَهَادَةِ الظِّنَّةِ وَالْوَهْمِ عَلَيْهِ، فَيُغْرِيهِمَا ذَلِكَ بِالتَّنَازُعِ فِي كُلِّ مَا يُقَصِّرُ فِيهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا، وَمَا أَكْثَرَهَا، وَأَعْسَرَ التَّوَقِّي مِنْهَا، فَكَثِيرًا مَا يُفْضِي التَّنَازُعُ إِلَى التَّقَاطُعِ، وَالتَّغَايُرُ إِلَى التَّدَابُرِ، فَإِنْ تَعَاتَبَا فَجَدَلٌ وَمِرَاءٌ، لَا اسْتِعْتَابَ وَاسْتِرْضَاءَ، حَتَّى يَحُلَّ الْكُرْهُ وَالْبَغْضَاءُ مَحَلَّ الْحُبِّ وَالْهَنَاءِ، لِذَلِكَ يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ إِنْ كُنْتَ عَلِيمًا بِالْأَخْلَاقِ وَالطَّبْعِ، خَبِيرًا بِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، بِأَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي أَرْسَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ هِيَ الْقَاعِدَةُ الثَّابِتَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>