للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)

قُلْنَا:إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَعَدَمِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، فَالْآيَاتُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَحَبَّاتٍ مِنَ الْجَوْهَرِ نُظِمَتْ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ وَعَلَامَاتِهِمْ، وَبَيْنَ خَصَائِصِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، وَذَكَرَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَى عَنْ جَلِيَّةِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَمَا رُزِئُوا بِهِ مِنَ الصَّمَمِ الْمَعْنَوِيِّ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنَ الْبُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِ الْحَقِّ أَوْ سُؤَالِ الْمُرْشِدِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ فِرَقَهُمْ وَأَصْنَافَهُمْ، وَبَيَّنَ خَلَائِقَهُمْ وَأَوْصَافَهُمْ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ، وَنَضَلَهُمْ فِي مَيْدَانِ الْجِدَالِ بِسِهَامِ الْحُجَجِ النَّافِذَةِ وَسُيُوفِ

الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ تَحَدَّاهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيُنَاضِلُ عَنْهُ وَيُكَافِحُ دُونَهُ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) فَقَالَ:

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ - بَعْدَ أَنْ تَنْسَلُّوا مِنْ مَضَايِقِ الْوَسَاوِسِ، وَتَتَسَلَّلُوا مِنْ مَآزِقِ الْهَوَاجِسِ وَتَنْزِعُوا مَا طَوَّقَكُمْ بِهِ التَّقْلِيدُ مِنَ الْقَلَائِدِ، وَتَكْسِرُوا مَقَاطِرَ مَا وَرِثْتُمْ مِنَ الْعَوَائِدِ - أَنْ تُهْرَعُوا إِلَى الْحَقِّ فَتَطْلُبُوهُ بِبُرْهَانِهِ، وَأَنْ تُبَادِرُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَتَأْخُذُوهُ بِرُبَّانِهِ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمُ الْحَقُّ بِذَاتِهِ، فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ، وَهِيَ عَجْزُكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ رَجُلٍ أُمِّيٍّ مِثْلِ الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ، وَهُوَ عَبْدُنَا وَرَسُولُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تُسَاوِي سُورَةً فِي هِدَايَتِهَا، وَتُضَارِعُهَا فِي أُسْلُوبِهَا وَبَلَاغَتِهَا - وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ، وَعَصْرُكُمْ أَرْقَى عُصُورِ الْفَصَاحَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ كَثِيرُونَ مِنْكُمْ بِالسَّبْقِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ يُسَابِقُكُمْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْبُرْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ هَذَا الِاسْتِعْدَادَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَمَرَّنْ عَلَيْهِ أَوْ يَتَكَلَّفْهُ لِمُبَارَاةِ أَهْلِهِ - فَاعْلَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَعْجَزَكُمْ بَعْدَ سَبْقِكُمْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ، وَإِمْدَادٍ سَمَاوِيٍّ، لَمْ يَسْمُ عَقْلُهُ إِلَى عِلْمِهِ، وَلَا بَيَانُهُ إِلَى أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>