للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا وَأَبُو لَهَبٍ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ (١١١: ١) ، إِلَخْ، السُّورَةِ، فَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ إِذَنْ لِلْآيَاتِ هُوَ أَنَّ اللهَ لَا يُقِيمُ وَزْنًا لِلْمُشْرِكِ فِي مُقَابَلَةِ شِرْكِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُ الشِّرْكَ عَمَلٌ صَالِحٌ فَيَمْحُوهُ، بَلِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِإِزَاءِ الشِّرْكِ هَبَاءٌ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكَ الْعَاصِيَ أَشَدُّ عَذَابًا مِنَ الْمُشْرِكِ الْمُحْسِنِ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَهُ تَعَالَى سَوَاءً، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ بِلَا شَكٍّ.

أَقُولُ: الْمِثْقَالُ ـ مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ ـ الْمِقْدَارُ الَّذِي لَهُ ثَقُلَ مَهْمَا قَلَّ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْمِعْيَارِ الْمَخْصُوصِ لِلذَّهَبِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالذَّرَّةُ أَصْغَرُ مَا يُدْرَكُ مِنَ الْأَجْسَامِ

كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَمَا أُطْلِقَ عَلَى النَّمْلَةِ وَعَلَى رَأْسِهَا وَعَلَى الْخَرْدَلَةِ، وَعَلَى الدَّقِيقَةِ مِنْ دَقَائِقِ الْهَبَاءِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ فِي نُورِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ الْكُوَى ـ إِلَّا لِبَيَانِ مَكَانِ صِغَرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ; وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الذَّرَّةِ رِوَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا رَأْسُ النَّمْلَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ فَقَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ذَرَّةٌ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ: " إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ نَمْلَةٍ "، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا التَّفْسِيرُ، وَالظُّلْمُ مَعْنَاهُ فِي الْأَصْلِ النَّقْصُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا (١٨: ٣٣) ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْقُصُ أَحَدًا مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ، وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا مَا وَإِنْ صَغُرَ كَذَرَّةِ الْهَبَاءِ، بَلْ يُوَفِّيهِ أَجْرَهُ، وَلَا يُعَاقِبُهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِلْعُقُوبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى نَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ الْبَارِئِ فِي مَوَاضِعِ التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَنَارِ، مِنْهَا تَفْسِيرُ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٣: ١٨٢) ، فَيُرَاجَعُ فِي ص ٢١٨ وَتَفْسِيرِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٣: ١٩٢) ، فِي ص ٢٤٧ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ أَيْضًا، وَلَا أَذْكُرُ غَيْرَهَا الْآنَ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ الْكَلَامُ فِي الْجَزَاءِ وَمَوَازِينِ الْأَعْمَالِ، وَلَا تُفْهَمُ هَذِهِ الْآيَةُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا بِاسْتِبَانَةِ مَا حَقَّقْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَكَوْنِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ تَابِعَيْنِ لِتَأْثِيرِ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ بِالتَّزْكِيَةِ أَوِ التَّدْسِيَةِ، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُؤَيِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَمَا أَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي فَهْمِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا لِذُهُولِهِمْ عَنْ مُقَارَنَةِ الْآيَاتِ الْمُتَنَاسِبَةِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَاسْتِبْدَالِهِمْ بِذَلِكَ تَحْكِيمَ الِاصْطِلَاحَاتِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعَهَا عُلَمَاءُ مَذَاهِبِهِمْ، وَإِرْجَاعِ الْآيَاتِ إِلَيْهَا وَحَمْلِهَا عَلَيْهَا، فَهَذَا يَسْتَشْكِلُ نَفْيَ الظُّلْمِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ; لِأَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَسْتَحِقُّونَ عِنْدَهُ شَيْئًا مِنَ الْأَجْرِ، فَيَكُونُ مَنْعُهُ أَوِ النَّقْصُ مِنْهُ ظُلْمًا، ثُمَّ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَعْدِ فَهُوَ قَدْ وَعَدَ بِإِثَابَةِ الْمُحْسِنِ، وَأَوْعَدَ بِعِقَابِ الْمُسِيءِ، ثُمَّ جَعَلُوا جَوَازَ تَخَلُّفِ الْوَعْدِ أَوِ الْوَعِيدِ مَحَلَّ بَحْثٍ وَجِدَالٍ أَيْضًا، وَهَذَا يَقُولُ: إِنَّ إِثَابَةَ الْمُحْسِنِ وَعِقَابَ الْمُسِيءِ أَمْرٌ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ مُوَافِقٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>