للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْكَ وَيَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِكَ إِعْرَاضًا مُتَعَمَّدًا مِنْهُمْ، وَهُوَ هُنَا مِنْ " صَدَّ " اللَّازِمِ، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَنْ صَدَّ وَأَعْرَضَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَمْدًا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ دَعْوَتِهِ إِلَيْهِ وَتَذْكِيرِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَافِقًا لَا يُعْتَدُّ بِمَا يَزْعُمُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيمَا اسْتَبَانَ حُكْمُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ وَوُعِظُوا بِهِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى

هَذَا الصُّدُودِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهَوَاتِهِمْ، وَأُلْفَتُهُمْ لِلْبَاطِلِ، وَعَدُوُّ الْحَقِّ يُعْرِضُ عَنْهُ إِعْرَاضًا شَدِيدًا، قَالَ: ثُمَّ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ سَخَافَتَهُمْ وَجَهْلَهُمْ وَعَدَمَ طَاقَتِهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى هَذَا الصُّدُودِ، فَقَالَ: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَخْ، أَيْ لَوْ عَقَلُوا لَالْتَزَمُوا مَا أَظْهَرُوا قَبُولَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِيمَانِ لَيَتِمَّ لَهُمُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ التى اخْتَارُوا فِيهَا التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ لَا تَدُومُ لَهُمْ، وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْهَا فَيَقَعُوا فِي مُصَابٍ يَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَعْتَذِرُوا عَنْ صُدُودِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ إِذَا أَطْلَعَكَ اللهُ عَلَى شَأْنِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَهُمْ يُكَذِّبُ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ؟ إِنَّهُمْ إِذَنْ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ وَالْإِذْلَالَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ بِشَارَةً بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ سَيَقَعُونَ فِي مُصِيبَةٍ تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَكْشِفُ سِرَّهُمْ، وَهَلْ يَتُوبُونَ حِينَئِذٍ وَيَجِيئُونَكَ أَمْ لَا؟ وَيَقُولُ غَيْرُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِشَيْءٍ سَيَقَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ نَاجِزٌ لِأَمْرِهِمْ، وَإِيذَانٌ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَإِرَاءَتِهِمْ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، مُسْتَحِقُّونَ لِمَا يُعَاقِبُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

أَقُولُ: أَشَارَ الْأُسْتَاذُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدَّرْسِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَنَاقَلُوا الْخِلَافَ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا فَهْمٌ شَاذٌّ فَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَالْمَعْنَى: رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِلَخْ.

أَيْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَيْكَ يَصُدُّونَ عَنْكَ فِي غَيْبَتِكَ، ثُمَّ يَجِيئُونَكَ يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ فِي حَضْرَتِكَ، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ! أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَالشِّدَّةِ! وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْوَاحِدِيَّ قَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَأَقُولُ: لَا عَجَبَ إِذَا اخْتَارَهَا وَإِنْ كَانَ النَّظْمُ الْكَرِيمُ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا، وَقَدْ خَطَرَتْ فِي بَالِ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَهْمًا لِلْكَلَامِ، وَهَلْ عَثَرَ مُتَقَدِّمٌ عَثْرَةً وَلَمْ يَعْثُرْ وَرَاءَهُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَوْ تَكَلُّفًا لِلْعِثَارِ؟ ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ الْكَلَامَ هُنَا عَلَى مَعْنَى

الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةً، وَخَلَطَ بِهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَعْدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>