للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَأَوْا مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَعْذَارِهِمُ الْمُؤَكَّدَةِ بِأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ وَالْبَشَاشَةِ فِي وُجُوهِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ الظُّنُونَ: لَعَلَّهُ عَرَفَ مَا نُسِرُّ فِي نُفُوسِنَا، لَعَلَّ سُورَةً نَزَلَتْ نَبَّأَتْهُ بِمَا فِي قُلُوبِنَا، لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَاخِذَنَا بِمَا فِي بَوَاطِنِنَا، وَهَذِهِ الظُّنُونُ تَعِدُهُمُ التَّأَمُّلَ فِيمَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَعْظِ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي [ص ٣٢١ ج٢ طَبْعَةِ الْهَيْئَةِ] ، ـ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا فَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي أَنْفُسِهِمْ فِي شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ، كَأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ فِي عَقَائِدِهَا، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالسَّرَائِرِ مِنَ الْأَعْمَالِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِرْآةُ الْبَاطِنِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الذَّبْذَبَةَ لَمْ تَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ فِيمَا يُهِمُّهُمْ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِهَا فِي اضْطِرَابٍ دَائِمٍ، وَهَمٍّ مُلَازِمٍ، وَهِيَ شَرٌّ لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَقِيلَ: فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَاهُ فِي السِّرِّ دُونَ الْمَلَأِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي السِّرِّ يَبْلُغُ مِنَ النَّفْسِ مَا لَا يَبْلُغُهُ الْكَلَامُ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ خَالِيًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ مَعْنَى حَدِيثِكَ مَا يَشْغَلُ غَيْرَهُ مِنْ ذَهَابِ نَفْسِهِ وَرَاءَ تَأْثِيرِ حَدِيثِكَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الَّذِينَ سَمِعُوهُ: هَلْ يَحْتَقِرُونَهُ بِهِ، هَلْ يُحَدِّثُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ؟ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَأَنْ يَقُولَ إِذَا قِيلَ

لَهُ فِيهِ أَوِ احْتُقِرَ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: يَغُوصُ فِيهَا وَيَبْلُغُ غَايَةَ مَا يُرَادُ بِهِ مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَكَثِيرًا مَا يُرَجِّحُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَذْهَبَهُمْ - وَلَا سِيَّمَا فِي الْجَوَازِ وَاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ - وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَهُ إِلَّا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَامِلِ، وَتَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فِي الظُّرُوفِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ ثَالِثٌ، فَالْوَعْظُ: النُّصْحُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالْقَوْلُ الْبَلِيغُ: مَا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمُعَامَلَتِهِمْ فِيهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ طُولَهُ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ.

وَفِي الْآيَةِ شَهَادَةٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَتَفْوِيضُ أَمْرِ الْوَعْظِ وَالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ بِاخْتِلَافِ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهِيَ شَهَادَةٌ لَهُ بِالْحِكْمَةِ وَوَضْعِ الْكَلَامِ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذَا بِمَعْنَى إِيتَاءِ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ دَاوُدَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ فَضِيلَةً إِلَّا وَأُوتِيَ مِثْلَهَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَشَهَادَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَإِنَّمَا آتَاهُ اللهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمَزِيَّتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَشْهُورًا بَيْنَ قَوْمِهِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْ مَظْهَرِ فَصَاحَتِهِمْ وَبَلَاغَتِهِمْ وَهُوَ الشِّعْرُ وَالْخَطَابَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>