للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمُمَاتَنَةُ ـ الْمُغَالَبَةُ ـ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ، وَإِنَّمَا صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّتُهُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْبَلَاغَةِ أَظْهَرَ وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، فَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِنَّهُ تَمَرَّنَ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَزَاوَلَهُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ حَتَّى ارْتَقَى فِيهِ إِلَى هَذِهِ الْقِمَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي لَا يُطَاوَلُ فِيهَا، هَذِهِ هِيَ حُجَّتُنَا الْمُؤَيَّدَةُ بِسِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُنْ مَعْدُودًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فِي بُلَغَاءِ الْقَوْمِ بِالشِّعْرِ وَلَا الْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْفُلُ بِمُفَاخَرَاتِهِمْ وَمُمَاتَنَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالصِّدْقِ، وَأَمَّا دَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا كَالْبَلَاغَةِ الْعُلْيَا قَدْ كَمَّلَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا وَبِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا فَنُصُوصُ الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي مِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (٤: ١١٣) .

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: " وَأَمَّا فَصَاحَةُ اللِّسَانِ وَبَلَاغَةُ الْقَوْلِ فَقَدْ كَانَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ سَلَاسَةَ طَبْعٍ، وَبَرَاعَةَ

مَنْزَعٍ، وَإِيجَازَ مَقْطَعٍ، وَنَصَاعَةَ لِفَظٍّ، وَجَزَالَةَ قَوْلٍ، وَصِحَّةَ مَعَانٍ، وَقِلَّةَ تَكَلُّفٍ، أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخُصَّ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَعَلِمَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ، يُخَاطِبُ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِلِسَانِهَا، وَيُحَاوِرُهَا بِلُغَتِهَا، وَيُبَارِيهَا فِي مَنْزَعِ بَلَاغَتِهَا، حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ عَنْ شَرْحِ كَلَامِهِ، وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ تَأَمُّلِ حَدِيثِهِ وَسِيَرِهِ، عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ، وَلَيْسَ كَلَامُهُ مَعَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ كَكَلَامِهِ مَعَ ذِي الْمِعْشَارِ الْهَمْدَانِيِّ وَطِهْفَةَ النَّهْدِيِّ، وَقَطَنِ بْنِ حَارِثَةَ الْعُلَيْمِيِّ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ وَمُلُوكِ الْيَمَنِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مُتَمِّمٌ لِسِيَاقِ وُجُوبِ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يَرْغَبُ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ وَيُؤْثِرُ عَلَيْهِ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَنْبَغِي لِلرَّسُولِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>