للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَدْ حَدَّدَ لِلنَّاسِ بِعِلْمِهِ حُدُودَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَضُرُّهُمْ تَجَاوُزُهَا، وَبِحِكْمَتِهِ جَعَلَ لَهَا عِقَابًا يَضُرُّ الْمُتَجَاوِزَ لَهَا، فَهُوَ إِذَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللهَ شَيْئًا.

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، أَقُولُ: يُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ الْخَطِيئَةَ وَالْإِثْمَ وَالذَّنْبَ وَالسَّيِّئَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِكُلِّ لَفْظٍ مِنْهَا مَعْنًى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِثْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ، وَيَقُولُ الرَّاغِبُ: إِنَّ الْإِثْمَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، أَيْ: مِثْلَ السُّكْرِ وَالْمَيْسِرِ ; لِأَنَّهُمَا يَشْغَلَانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ ; وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (٢: ٢١٩) ، وَأَمَّا الْخَطِيئَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مِنَ الْخَطَأِ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَصِيغَةُ فَعِيلَةُ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَيْضًا فَالْخَطِيئَةُ الْفِعْلَةُ الْعَرِيقَةُ فِي الْخَطَأِ لِظُهُورِهِ فِيهَا ظُهُورًا لَا يُعْذَرُ صَاحِبُهُ بِجَهْلِهِ، وَالْخَطَأُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تُخْطِئَ مَا يُرَادُ مِنْكَ، وَهُوَ مَا يُطَالِبُكَ بِهِ الشَّرْعُ وَيَفْرِضُهُ عَلَيْكَ الدِّينُ، أَوْ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالْعَهْدُ، وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مَا يُخْطِئُهُ الْفَاعِلُ مِنْ مَطَالِبِ الشَّرْعِ: أَيْ يَتَجَاوَزُهُ وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْ هُنَا جَعَلُوا الْخَطِيئَةَ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ هُنَا بِالْخَطَأِ وَالْإِثْمِ بِالْعَمْدِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَطِيئَةُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الذَّنْبِ عَنِ الْفَاعِلِ خَطَأً، أَيْ: مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَالْإِثْمُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَيَعْنِي بِالْمُلَاحَظَةِ تَذَكُّرَ ذَلِكَ وَتَصَوُّرَهُ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدَمَ الْمُلَاحَظَةِ وَالشُّعُورِ بِالذَّنْبِ عِنْدَ فِعْلِهِ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ تَمَكُّنَ دَاعِيَتِهِ مِنَ النَّفْسِ وَوُصُولَهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ وَالْأَخْلَاقِ الثَّابِتَةِ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَعْمَالُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَقُولُ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَيَانُ تَوْجِيهًا لِقَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْخَطِيئَةَ هُنَا بِالْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ، وَالْبُهْتَانُ: الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ الْمَكْذُوبَ عَلَيْهِ أَيْ: يُحَيِّرُهُ وَيُدْهِشُهُ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يُبْرِئْ نَفْسَهُ مِنْهُ أَيْ: مِمَّا ذَكَرَ، وَيَرْمِ بِهِ بَرِيئًا أَيْ: يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ وَيَزْعُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَسَبَهُ، فَقَدِ احْتَمَلَ أَيْ كَلَّفَ نَفْسَهُ أَنْ يَحْمِلَ وِزْرَ الْبُهْتَانِ بِافْتِرَائِهِ عَلَى الْبَرِيءِ وَاتِّهَامِهِ إِيَّاهُ، وَوِزْرُ: الْإِثْمُ الْبَيِّنُ الَّذِي كَسَبَهُ وَتَنَصَّلَ مِنْهُ، وَقَدْ فَشَا هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَعَ هَذَا يَنْسُبُ الْمَارِقُونَ ضَعْفَهُمْ إِلَى دِينِهِمْ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ تَرْكُ هِدَايَتِهِ، فَالْحَادِثَةُ الَّتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِثْرَ وُقُوعِهَا كَانَتْ فَذَّةً فِي بَابِهَا، وَمَا زَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ سَرَقَ أَوْ خَانَ بَعْضُهُمْ، وَنَصَرَهُ آخَرُونَ وَبَهَتُوا الْيَهُودِيَّ بِرَمْيِهِ بِجُرْمِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ، لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْبَاطِنِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِثْمِ الْمُبِينِ، وَالْبُهْتَانِ الْعَظِيمِ، لَا يَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلَكِنَّ مِثْلَهَا صَارَ الْيَوْمَ مَأْلُوفًا، بَلْ وُجِدَ فِي بَعْضِهِمْ مَنْ يُفْتِي بِجَوَازِ خِيَانَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْمُعَاهِدِينَ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا عَلِمْنَا مِنْ وَاقِعَةِ حَالٍ اسْتُفْتِينَا فِيهَا وَنُشِرَتِ الْفَتْوَى فِي الْمَنَارِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ هَذَا الْخِذْلَانِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>