للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ ; وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَهْلُ الْأَثَرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْمُتَفَاخِرِينَ بِدِينِهِمُ الْمُتَبَجِّحِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا بِأَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَقُوَّةِ الْعَقْلِ وَصَفَاءِ الرُّوحِ وَكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ بِالْوَحْيِ وَالْفِنَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ ! وَلَا تَكَادُ تُوجَدُ كَلِمَةٌ فِي اللُّغَةِ تُمَثِّلُ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ كَلِمَةِ الْخَلِيلِ، وَأَمَّا لَوَازِمُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِمْ فَيُنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِ شَيْءٍ مُحِيطًا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: خُتِمَ هَذَا السِّيَاقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِفَوَائِدَ: (إِحْدَاهَا) التَّذْكِيرُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقًا وَمُلْكًا، وَهُوَ أَكْرَمُ مَنْ وَعَدَ وَأَقْدَرُ مَنْ أَوْعَدَ، (ثَانِيهَا) : بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَغَيْرُهُ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا، فَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ الْعَاقِلُ إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَيَتْرُكُ التَّوَجُّهَ إِلَى مَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ فِي التَّوَجُّهِ وَلَوْ لِأَجْلِ قُرْبِهِ مِنْهُ؟

(ثَالِثُهَا) : نَفْيُ مَا رُبَّمَا يَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْأَذْهَانِ مِنَ اللَّوَازِمِ الْعَادِيَّةِ فِي اتِّخَاذِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا كَأَنْ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ أَوِ الْمُقَارَبَةِ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ وَمِنْ خَلْقِهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ صِفَاتُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَرَاتِبُهَا فِي أَنْفُسِهَا وَبِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا هِيَ نُسِبَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمَعْبُودُ وَهِيَ مَخْلُوقَاتٌ مَمْلُوكَةٌ عَابِدَةٌ لَهُ خَاضِعَةٌ لِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، إِحَاطَةَ قَهْرٍ وَتَصَرُّفٍ وَتَسْخِيرٍ، وَإِحَاطَةَ عِلْمٍ وَتَدْبِيرٍ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْإِحَاطَةَ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِحَاطَةَ وُجُودٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ وَجُودُهَا مِنْ ذَاتِهَا، وَلَا هِيَ ابْتَدَعَتْ نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا وُجُودُهَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُودِ

الْوَاجِبِ الْأَعْلَى، فَالْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْلِصَ الْخَلْقُ لَهُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ.

(يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد رِضا مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ) : هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ آخِرَ مَا فَسَّرَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَجَزَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَسَنَسْتَمِرُّ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنَّا مَحْرُومِينَ فِي تَفْسِيرِ سَائِرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ الَّتِي كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ عَلَى عَقْلِهِ الْمُنِيرِ إِلَّا فِي الْجُزْءِ الثَّلَاثِينَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ لَهُ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ١٣٢٣ هـ، وَقَدْ تُوُفِّيَ شَهْرَ جُمَادَى الْأُولَى

<<  <  ج: ص:  >  >>