للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِمَّا يَعُمُّهُمْ، فَكَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيُعَذَّبُ بِالْحَسْرَةِ إِذَا رَأَى أُجُورَ الْعَامِلِينَ، وَبِمَا يُصِيبُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ. اهـ.

أَقُولُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى حَشْرِ الْمُسْتَنْكِفِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: جَمِيعًا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَثَمَّ

وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْعَامِلِينَ بِصِيغَةِ مُبْتَدَأٍ، يَكُونُ خَبَرُهُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ أَوِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ شَرْطًا كَمَا هُنَا، وَكَانَ جَزَاؤُهُ كَلَامًا عَامًّا يُشِيرُ إِلَى الْخَبَرِ إِشَارَةً ضِمْنِيَّةً ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٨: ٤٩) وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٥٧: ٢٤) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَالْمُرَادُ: وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ، فَسَيَجْزِيهِ إِذْ يَحْشُرُ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِلْجَزَاءِ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.

لَمَّا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ عَلَى النَّصَارَى وَفِيمَا قَبْلَهَا عَلَى الْيَهُودِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالنُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ، كَمَا قَامَتْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيهَا وَفِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ، وَظَهَرَتْ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ ظُهُورَ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ; لِأَنَّ سُحُبَ الشُّبَهَاتِ قَدِ انْقَشَعَتْ بِالْحُجَجِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا كُلَّ الِانْقِشَاعِ - نَادَى اللهُ - تَعَالَى - النَّاسَ كَافَّةً وَدَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ بُرْهَانِهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِالنُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَقَالَ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ قِبَلِ رَبِّكُمْ، بِفَضْلِهِ وَعِنَايَتِهِ بِتَرْبِيَتِكُمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِكُمْ، بُرْهَانٌ عَظِيمٌ أَوْ جَلِيٌّ يُبَيِّنُ لَكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، مُؤَيِّدًا لَكُمْ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالْحِكَمِ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْأُمِّيُّ، الَّذِي يَظْهَرُ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ سِيرَتَهُ فِي نَشْأَتِهِ، وَتَرْبِيَتَهُ وَحَالَهُ فِي بَعْثَتِهِ، وَسُنَّتَهُ، أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ بُرْهَانٌ عَلَى حَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ: أُمِّيٌّ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ قَطُّ، وَلَمْ يُعْنَ فِي طُفُولِيَّتِهِ، وَلَا فِي شَبَابِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ يُسَمَّى عِلْمًا عِنْدَ قَوْمِهِ الْأُمِّيِّينَ ; كَالشِّعْرِ وَالنَّسَبِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، قَامَ فِي كُهُولَتِهِ يُعَلِّمُ الْأُمِّيِّينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ حَقَائِقَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>