للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نَادَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ

عَامَّةً، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِإِبَاحَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَهُمْ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى، وَمَا حَرَّمَ مِنَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَنَادَاهُمْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، بَلِ الثَّالِثَةِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَأَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا يَضُرُّهُمْ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ الَّتِي يُرَجَّحُ فِيهَا أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ عَلَى أَشَدِّهِمَا، وَأَحَلَّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَصَيْدَ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَاتِ، وَطَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَنِسَاءَهُمْ إِذَا كُنَّ مُحْصَنَاتٍ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ، وَنَادَاهُمْ ثَالِثًا فَأَمَرَهُمْ بِالطَّهَارَةِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِيثَاقِهِ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، ثُمَّ نَادَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا تَرَى. وَإِذَا رَاجَعْتَ سَائِرَ السُّورَةِ تَجِدُ النِّدَاءَ فِيهَا كَثِيرًا، مِنْهُ نِدَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْهُمْ، وَنِدَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، وَنِدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِرَارًا أَيْضًا، هَذَا أُسْلُوبٌ فِي الْخِطَابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نِدَاءٍ مِنْهُ مَبْدَأَ مَوْضُوعٍ مُسْتَقِلٍّ، لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَنَا بِمِيثَاقِهِ أَمَرَنَا بِأَنْ نَكُونَ قَوَّامِينَ لَهُ، شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَذَكَّرَنَا بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ ; لِأَنَّنَا بِذَلِكَ يُرْجَى أَنْ نَفِيَ بِمِيثَاقِهِ وَلَا نَنْقُضَهُ، كَمَا نَقَضَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَظْهَرُ لَكَ هَذَا الِاتِّصَالُ وَالتَّنَاسُبُ مِمَّا يَلِي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) الْقَوَّامُ: هُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُقَوَّمًا تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ، وَقَدْ حَذَفَ هُنَا مَا أَمَرَنَا بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِهِ، فَكَانَ عَامًّا شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا أَخَذَ عَلَيْنَا الْمِيثَاقَ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ حَتَّى الْمُبَاحَاتِ ; أَيْ كُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ، وَأَهْلِ الْإِيقَانِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَهُ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ أَوْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ، وَمَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي أَعْمَالِ الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ ; بِأَنْ يُرِيدَ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ الْخَيْرَ وَالْتِزَامَ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ شَائِبَةِ اعْتِدَاءٍ عَلَى حَقِّ أَحَدٍ، أَوْ إِيقَاعِ ضَرَرٍ بِهِ. وَالشَّهَادَةُ بِالْقِسْطِ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ بِالْعَدْلِ بِدُونِ مُحَابَاةِ مَشْهُودٍ لَهُ وَلَا مَشْهُودٍ عَلَيْهِ ; لَا لِقَرَابَتِهِ وَوَلَائِهِ، وَلَا لِمَالِهِ وَجَاهِهِ، وَلَا لِفَقْرِهِ وَمَسْكَنَتِهِ. فَالشَّهَادَةُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ لِلْحَاكِمِ ; لِيَحْكُمَ بِهِ، أَوْ إِظْهَارِهِ هُوَ إِيَّاهُ بِالْحُكْمِ بِهِ، أَوِ الْإِقْرَارِ بِهِ لِصَاحِبِهِ. وَ (الْقِسْطُ) :

هُوَ مِيزَانُ الْحُقُوقِ، مَتَى وَقَعَتْ فِيهِ الْمُحَابَاةُ وَالْجَوْرُ - لِأَيِّ سَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ - زَالَتِ الثِّقَةُ مِنَ النَّاسِ، وَانْتَشَرَتِ الْمَفَاسِدُ وَضُرُوبُ الْعُدْوَانِ بَيْنَهُمْ، وَتَقَطَّعَتْ رَوَابِطُهُمْ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَصَارَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَعْضَ عِبَادِهِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ مِنْهُمْ، فَيُزِيلُونَ اسْتِقْلَالَهُمْ، وَيُذِيقُونَهُمْ وَبَالَهُمْ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ الَّتِي شَهِدْنَاهَا فِي الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ، وَشَهِدَ بِهَا تَارِيخُ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَلَكِنَّ الْجَاهِلِينَ الْغَافِلِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ ; فَأَنَّى يَعْتَبِرُونَ وَيَتَّعِظُونَ؟ !

(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) أَيْ وَلَا يَكْسِبَنَّكُمْ وَيَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>