للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَوَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ النَّصَارَى الْمُعْتَدِلِينَ فِي بِلَادِنَا كَلِمَاتِ الثَّنَاءِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِشَعِيرَةِ الْأَذَانِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَتَفْضِيلَهَا عَلَى الْأَجْرَاسِ وَالنَّوَاقِيسِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ بُيُوتَاتِ نَصَارَى طَرَابُلُسَ مُصْطَافِينَ فِي بَلَدِنَا (الْقَلَمُونِ) فَكَانَ النِّسَاءُ يَجْتَمِعْنَ مَعَ الرِّجَالِ فِي النَّوَافِذِ عِنْدَ أَذَانِ الْمُؤَذِّنِ، وَلَا سِيَّمَا أَذَانُ الصُّبْحِ ; لِيَسْمَعُوا أَذَانَهُ، وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ نَدِيَّ الصَّوْتِ، حَسَنَهُ. وَاتَّفَقَ أَنْ غَابَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمًا، فَأَذَّنَ رَجُلٌ قَبِيحُ الصَّوْتِ، فَلَقِيَ وَالِدَيْ رَبَّ بَيْتٍ مِنْ تِلْكَ الْبُيُوتَاتِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ مُؤَذِّنَكُمُ الْيَوْمَ يَسْتَحِقُّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيَّ؟ قَالَ الْوَالِدُ: بِمَاذَا؟ قَالَ بِأَنَّهُ أَرْجَعَ أَهْلَ بَيْتِنَا إِلَى دِينِهِمْ، بَعْدَ أَنْ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِأَذَانِ الْمُؤَذِّنِ الْأَوَّلِ. وَأَنَا أَتَذَكَّرُ أَنَّ بَعْضَ صِبْيَانِهِمْ حَفِظَ الْأَذَانَ، وَصَارَ يُقَلِّدُهُ تَقْلِيدَ اسْتِحْسَانٍ، فَتَغْضَبُ وَالِدَتُهُ مِنْهُ، وَتَنْهَاهُ عَنِ الْأَذَانِ، وَأَمَّا وَالِدُهُ فَكَانَ يَضْحَكُ، وَيُسَرُّ لِأَذَانِ وَلَدِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى حُرِّيَّةٍ

وَسِعَةِ صَدْرٍ، وَلَا يَدِينِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ. فَالْأَذَانُ ذِكْرٌ مُؤَثِّرٌ، لَا تَخْفَى مَحَاسِنُهُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ الدِّينَ، وَيُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى فِي الْمَدِينَةِ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي يُنَادِي " أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ " قَالَ: أُحْرِقَ الْكَاذِبُ (دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْحَرِيقِ) فَدَخَلَتْ خَادِمَتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي بِنَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَهْلُهُ نِيَامٌ، فَسَقَطَتْ شَرَارَةٌ فَأَحْرَقَتِ الْبَيْتَ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ، وَوُجُودُ النَّصَارَى فِي الْمَدِينَةِ كَانَ نَادِرًا، وَأَكْثَرُ هَذَا الِاسْتِهْزَاءِ كَانَ يَكُونُ مِنَ الْيَهُودِ، كَمَا يَعْلَمُ مِنْ رَدِّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ التَّالِيَةِ:

(قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّبْكِيتِ ; أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُخَاطِبًا وَمُحْتَجًّا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا شَيْئًا ; أَيْ هَلْ عِنْدَنَا شَيْءٌ تُنْكِرُونَهُ وَتَعِيبُونَهُ عَلَيْنَا، وَتَكْرَهُونَنَا لِأَجْلِهِ لِمُضَادَّتِكُمْ إِيَّانَا فِيهِ، إِلَّا إِيمَانُنَا الصَّادِقُ بِاللهِ، وَتَوْحِيدُهُ وَتَنْزِيهُهُ، وَإِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ، وَإِيمَانُنَا بِمَا أَنْزَلَهُ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ قَبْلُ عَلَى رُسُلِهِ؟ أَيْ مَا عِنْدَنَا سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُعَابُ وَلَا يُنْقَمُ، بَلْ يُمْدَحُ صَاحِبُهُ وَيُكْرَمُ، وَإِلَّا أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ; أَيْ خَارِجُونَ مِنْ حَظِيرَةِ هَذَا الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْكَامِلِ، وَلَيْسَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا الْعَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْبَاطِلَةُ؟ فَلِذَلِكَ تَعِيبُونَ الْحُسْنَ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَتَرْضَوْنَ الْقَبِيحَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.

يُقَالُ: نَقَمَ مِنْهُ كَذَا يَنْقِمُ (كَضَرَبَ يَضْرِبُ) إِذَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَعَابَهُ بِهِ، وَكَرِهَهُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مِنْ مَادَّةِ النِّقْمَةِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ السُّخْطِ وَالْعِقَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا، وَيُقَالُ: نَقِمَ يَنْقَمُ (بِوَزْنِ عِلِمَ يَعْلَمُ) وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ الْأَوَّلُ.

رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، فِيهِمْ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ، وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَعَارِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَخَالِدٌ، وَإِزَارُ بْنُ أَبِي إِزَارٍ، وَوَاسِعٌ، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ، فَقَالَ: " آمَنَّا بِاللهِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ٦ ٣٧٠ "

<<  <  ج: ص:  >  >>