للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِنْهُ لَعْنُ أَصْحَابِ السَّبْتِ ; أَيِ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِيهِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مُجْمَلًا، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُفَصَّلًا.

وَالْغَضَبُ الْإِلَهِيُّ يَلْزَمُ اللَّعْنَةَ وَتَلْزَمُهُ، بَلِ اللَّعْنَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُنْتَهَى الْمُؤَاخَذَةِ لِمَنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ كُلٍّ مِنْهُمَا.

وَأَمَّا جَعْلُهُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ فَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (٢: ٦٥) وَقَالَ بَعْدَ بَيَانِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ مِنَ الثَّانِيَةِ: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (٧: ١٦٦) وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُسِخُوا فَكَانُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ حَقِيقَةً، وَانْقَرَضُوا ; لِأَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ كَمَا وَرَدَ. وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ " أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ لَهُمْ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا " ; فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ صَارُوا كَالْقِرْدَةِ فِي نَزَوَاتِهَا، وَالْخَنَازِيرِ فِي اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ تَرْجِيحُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ. قَالَ: " مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لَهُمْ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا " وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ ابْنِ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ هَذَا، وَتَرْجِيحِهِ الْقَوْلَ الْآخَرَ فَذَلِكَ اجْتِهَادُهُ، وَكَثِيرًا مَا يَرِدُ بِهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورِ. وَلَيْسَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ بِالْبَعِيدِ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ ; فَمِنْ فَصِيحِ اللُّغَةِ أَنْ تَقُولَ: رَبَّى فَلَانٌ الْمَلِكُ قَوْمَهُ أَوْ جَيْشَهُ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالْغَزْوِ، فَجَعَلَ مِنْهُمُ الْأُسُودَ الضَّوَارِي، وَكَانَ لَهُ مِنْهُمُ الذِّئَابُ الْمُفْتَرِسَةُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ، وَعِدَّةُ قِرَاءَاتٍ شَاذَّةٍ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ " عَبَدَ " بِالتَّحْرِيكِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَ " الطَّاغُوتَ " بِالنَّصْبِ مَفْعُولُهُ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: (لَعَنَهُ اللهُ) أَيْ

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ؟ هُمْ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ. . . إِلَخْ، وَمَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ (وَعَبُدَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالدَّالِ وَضَمِّ الْبَاءِ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي (عَبْدٍ) بِوَزْنِ (بَحْرٍ) وَاحِدِ الْعَبِيدِ، وَقَرَأَ (الطَّاغُوتِ) بِالْجَرِّ بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى (الْقِرَدَةِ) أَيْ وَجَعَلَ مِنْهُمْ عَبِيدَ الطَّاغُوتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَبْدًا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ لَا الْوَاحِدُ، كَمَا تَقُولُ: كَاتِبُ السُّلْطَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الطَّاغُوتَ اسْمٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ مِنَ الطُّغْيَانِ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ وَالْمَعْرُوفِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالْمُنْكَرِ ; فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مَصَادِرِ طُغْيَانِهِمْ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ.

(أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْمُخَازِي

<<  <  ج: ص:  >  >>