للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اتِّبَاعَ الْهَوَى عَلَى هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ؟ وَبِمَاذَا آخَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْإِصْرَارِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) اللَّعْنُ: أَشَدُّ مَا يُعَبِّرُ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ مَقْتِهِ وَغَضَبِهِ ; فَالْمَلْعُونُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ لُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ، الْبَعِيدُ عَنْ هُبُوطِ

رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَعَنَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْهُمْ فِي السَّبْتِ، أَوِ الْعَاصِينَ الْمُعْتَدِينَ عَامَّةً، وَالْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَعَنَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ اللَّعْنِ مِنَ اللهِ الَّذِي اسْتَمَرَّ هَذَا الِاسْتِمْرَارَ عِصْيَانَهُمْ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَاعْتِدَاءَهُمُ الْمُمْتَدُّ الْمُسْتَمِرُّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) .

وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ ذِكْرُهُ - ذَلِكَ الْعِصْيَانَ وَسَبَبَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللهِ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) أَيْ كَانُوا لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ مُنْكَرٍ مَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، مَهْمَا اشْتَدَّ قُبْحُهَا وَعَظُمَ ضَرَرُهَا، وَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حِفَاظُ الدِّينِ وَسِيَاجُ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فَإِذَا تُرِكَ تَجَرَّأَ الْفُسَّاقُ عَلَى إِظْهَارِ فِسْقِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، وَمَتَى صَارَ الدَّهْمَاءُ يَرَوْنَ الْمُنْكَرَاتِ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَسْمَعُونَهَا بِآذَانِهِمْ، تَزُولُ وَحْشَتُهَا وَقُبْحُهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ يَتَجَرَّأُ الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى اقْتِرَافِهَا. فَالْإِخْبَارُ بِهَذَا الشَّأْنِ مِنْ شُئُونِهِمْ إِخْبَارٌ بِفُشُوِّ الْمُنْكَرَاتِ فِيهِمْ، وَانْتِشَارِ مَفَاسِدِهَا بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْلُولِ، وَلَوْلَا اسْتِمْرَارُ وُقُوعِ الْمُنْكَرَاتِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّنَاهِي شَأْنًا مِنْ شُئُونِ الْقَوْمِ، وَدَأْبًا مِنْ دُءُوبِهِمْ.

(وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي تَفْسِيرِ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ٣: ١٠٤) الْآيَةَ، فَلْيُرَاجِعْ فِي (ص٢٢ ج٤ ط الْهَيْئَةِ) وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى) .

(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) هَذَا تَأْكِيدٌ قَسَمِيٌّ لِذَمِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، مِنِ اقْتِرَافِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالسُّكُوتِ عَلَيْهَا، وَالرِّضَاءِ بِهَا، وَكَفَى بِذَلِكَ إِفْسَادًا.

ذَلِكَ شَأْنُهُمْ وَدَأْبُهُمِ الَّذِي مَرَدُوا وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ، بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ; عِبْرَةً لَهُمْ، حَتَّى لَا يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَيَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَيَحِلَّ بِهِمْ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ مَا حَلَّ بِهِمْ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ، وَدَعْ مَا تَصْنَعُ ; فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرْبَ

اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>