للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَذَّاتِ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ، فَهُوَ مِنَ الرَّهْبَةِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، أَوْ مِنْ رَهَبِ الْإِبِلِ وَهُوَ هُزَالُهَا وَكَلَالُهَا مِنْ طُولِ السَّيْرِ، وَأَنَّ الْقِسِّيسِينَ جَمْعُ قِسِّيسٍ وَمِثْلُهَا قَسٌّ وَجَمْعُهُ قُسُوسٌ وَهُوَ رَئِيسٌ دِينِيٌّ فِي عُرْفِ الْكَنِيسَةِ فَوْقَ الشَّمَّاسِ وَدُونَ الْأَسْقُفِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَسَّ الْإِبِلَ يَقُسُّهَا مِنْ بَابِ نَصَرَ قَسًّا (بِتَثْلِيثِ الْقَافِ) إِذَا أَحْسَنَ رَعْيَهَا وَسَقْيَهَا، وَالْأَصْلُ فِي الْقِسِّيسِينَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ لِأَنَّهُمْ رُعَاةٌ وَمُفْتُونَ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ، وَكَوْنُ الرَّهْبَانِيَّةِ بِدْعَةً فِي النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُنَافِي تَأْثِيرَهَا فِي تَقْرِيبِ النَّصَارَى مِنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَوْلًا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى فِي عَهْدِهِ كَالْحَوَارِيِّينَ وَقَوْلًا آخَرَ: الْمُرَادُ بِهِمْ جَمَاعَةُ النَّجَاشِيِّ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرَ الْجُزْءِ السَّادِسِ، لِأَنَّ التَّجْزِئَةَ لَا تُرَاعَى فِيهَا الْمَعَانِي، وَيَبْدَأُ الْجُزْءُ السَّابِعُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:

(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أَيْ وَإِذَا سَمِعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الْكَامِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أُكْمِلَ بِهِ الدِّينُ، وَبُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، تَرَى أَيُّهَا النَّاظِرُ إِلَيْهِمْ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ، أَيْ تَمْتَلِئُ دَمْعًا حَتَّى يَتَدَفَّقَ الدَّمْعُ مِنْ جَوَانِبِهَا لِكَثْرَتِهِ، أَوْ حَتَّى كَأَنَّ الْأَعْيُنَ ذَابَتْ وَصَارَتْ دَمْعًا جَارِيًا، ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مَا مَنَعَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ، قَوْلُهُ: (مِنَ الْحَقِّ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: (مِمَّا عَرَفُوا) (وِقِيلَ: إِنَّ " مِنْ " فِيهِ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ إِنَّ أَعْيُنَهُمْ فَاضَتْ عَبْرَةً وَدُمُوعًا، عِبْرَةً مِنْهُمْ وَخُشُوعًا، لِمَعْرِفَتِهِمْ بَعْضَ الْحَقِّ، إِذْ سَمِعُوا بَعْضَ الْآيَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَيْفَ لَوْ عَرَفُوا الْحَقَّ كُلَّهُ بِسَمَاعِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَمَعْرِفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْبَيَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِتَطْبِيقِهِ عَلَى وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَالَّذِي يَسْمَعُ فِي النَّجَاشِيِّ وَجَمَاعَتِهِ، وَأَمَّا ظَاهِرُ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ فَهُوَ بَيَانُ مَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الْعِبْرَةُ وَالِاسْتِعْبَارُ، وَالدُّمُوعُ الْغِزَارُ.

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَكُونُ مِنْ مَقَالِهِمْ، بَعْدَ بَيَانِ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِمْ فَقَالَ: (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أَيْ: يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ يُرِيدُونَ بِهِ إِنْشَاءَ الْإِيمَانِ، وَالتَّضَرُّعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمْ وَيَكْتُبَهُمْ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَالرُّسُلِ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ، أَوْ مِمَّا يَتَنَاقَلُونَهُ عَنْ سَلَفِهِمْ، أَنَّ النَّبِيَّ الْأَخِيرَ الَّذِي يُكْمِلُ اللهُ بِهِ الدِّينَ يَكُونُ مُتَّبِعُوهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بِدُخُولِهِمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ يُكْتَبُونَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، فَذَكَرَ اللهُ الْأُمَّةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>