للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَصِحُّ الْفَصْلُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ؟ وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثُ مُؤَكِّدَاتٍ أُخْرَى نُورِدُهَا مَعْدُودَةً مَعَ مَا قَبْلَهَا:

(ثَانِي عَشَرَهَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أَيْ أَطِيعُوا اللهَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ اجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا تَجْتَنِبُونَ الْأَنْصَابَ

وَالْأَزْلَامَ أَوْ أَشَدَّ اجْتِنَابًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ مِمَّا نَزَّلَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا.

(ثَالِثَ عَشَرَهَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاحْذَرُوا) أَيِ احْذَرُوا عِصْيَانَهُمَا أَوْ مَا يُصِيبُكُمْ إِذَا خَالَفْتُمْ أَمْرَهُمَا مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا يَضُرُّكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، قَالَ تَعَالَى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢٤: ٦٣) .

(رَابِعَ عَشَرَهَا) الْإِنْذَارُ وَالتَّهْدِيدُ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) أَيْ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَعْرَضْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ دِينَنَا وَشَرْعَنَا، وَقَدْ بَلَّغَهُ وَأَبَانَهُ وَقَرَنَ حُكْمَهُ بِأَحْكَامِهِ وَعَلَيْنَا نَحْنُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ وَسَتَرَوْنَهُ فِي إِبَّانِهِ، كَمَا قَالَ: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (١٣: ٤٠) وَإِنَّمَا الْحِسَابُ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ.

لَمْ يُؤَكَّدْ تَحْرِيمُ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ هَذَا التَّأْكِيدِ لَا قَرِيبًا مِنْهُ، وَحِكْمَتُهُ شِدَّةُ افْتِتَانِ النَّاسِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَذَا الْمَيْسِرُ، وَتَأَوُّلُهُمْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الِاحْتِمَالِ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَدْيَانِ الَّتِي تُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ، كَمَا أَوَّلَتِ الْيَهُودُ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَغَيْرِهِ، وَكَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ شُرْبَ بَعْضِ الْخُمُورِ بِتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، إِذْ قَالُوا هَذَا نَبِيذٌ لَا يُسْكِرُ إِلَّا الْكَثِيرُ مِنْهُ، وَقَدْ أَحَلَّ مَا دُونَ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ خَمْرٌ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ شُرْبِهِ إِلَّا السُّكْرُ.

بَلْ تَجَرَّأَ بَعْضُ غُلَاةِ الْفُسَّاقِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، لِأَنَّ اللهَ قَالَ: (فَاجْتَنِبُوهُ) وَلَمْ يَقُلْ: حَرَّمْتُهُ فَاتْرُكُوهُ، وَقَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وَلَمْ يَقُلْ فَانْتَهُوا عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَنَا هَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ فَقُلْنَا: لَا، ثُمَّ سَكَتَ وَسَكَتْنَا وَيَصْدُقُ عَلَى هَؤُلَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا) (٧: ٥١) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْغُلُوَّ قَلَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ فَمَا قَالَهُ تَعَالَى أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيمِهِ مِمَّا قَالُوا.

أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ قَالُوا انْتَهَيْنَا رَبَّنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: انْتَهَيْنَا أَكَّدُوا الِاسْتِجَابَةَ

وَالطَّاعَةَ كَمَا أَكَّدَ عَلَيْهِمُ التَّحْرِيمَ، وَكَانَ فِيهِمُ الْمُدْمِنُونَ لِلْخَمْرِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُهَا،

<<  <  ج: ص:  >  >>